د. رميز نظمي*
كانت نكسة حزيران/ يونيو 1967، الانهزام العسكري الذي مكن الكيان الصهيوني من اغتصاب سيناء، والجولان وكامل فلسطين، بضمنها القدس الشريف. ما حصل في الخامس من حزيران/ يونيو 1967 كان كارثيا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني، كان فشلا مريعا لثلاث جيوش عربية: المصري والأردني والسوري، كانت هزيمة عسكرية يتوقع أعداء الأمة أن تتكلل باندحار المشروع التحرري العروبي، لكن رياح الوطن جرت بما لا تشتهي سفن الأعداء. في 9 حزيران/ يونيو ألقى عبد الناصر، قائد و رمز المشروع التحرري العروبي، خطابا أعلن فيه استعداده لتحمل مسؤولية الهزيمة، وتنحيه عن رئاسة الجمهورية، ومن اي منصب رسمي او دور سياسي. بمجرد إذاعة نبأ استقالته حتى هبت عفويا ملايين الجماهير في مظاهرات عمت ارجاء مصر والوطن العربي معبرة عن رفضها لقرار التنحي، وتمسكها بقيادة عبد الناصر. مظاهرات شعارها “نحن جنودك باجمال”، قضت على اي توهم بأن هزيمة عسكرية، مهما كانت فداحتها، تؤدي بالضرورة الى هزيمة سياسية. طالما كان الشعب معتزاً بقيادته، ومؤمناً بقضيته، ومعبأً فكرياً، فلن يحصل الاستسلام.
يبين التاريخ ان هزيمة عسكرية لا تؤدي دائماً الى خسارة الحرب، ألم يتعرض زعماء دوليون اخرون، انتصروا في حروبهم، الى هزائم عسكرية، زعماء كبار من أمثال تشرتشل وستالين وديجول وروزفلت؟ ومع كل هذا، فأن خروج الملايين تعلن ثقتها واحتضانها لقائدها المكسور هي ظاهرة لا مثيل لها تاريخياً، ظاهرة عبّرت عن نبل ووفاء وايمان الجماهير بالمسيرة الناصرية، وبرشد قائدها، وقدرته على تحويل الهزيمة الى نصر مبين مهما بلغت التحديات.
تلبيةً لارادة الجماهير، عدل عبد الناصر عن قرار استقالته، وبدأ بأجراء كل ما يلزم، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، لإزالة اثار النكسة. من منطلقه العروبي، لم تقتصر ازالة اثار النكسة عند عبد الناصر على تحرير سيناء، بل أيضاً لكل شبر دنسه الكيان الصهيوني: الضفة الغربية ومن ضمنها القدس الشريف، وغزة، والجولان. وفي هذا السياق، رفض اكثر من عرض بانسحاب الاحتلال من كامل الأراضي المصرية، مقابل تخلي مصر عن الاراضي العربية المحتلة الأخرى، وبهذا الخصوص صرح “قالت أمريكا ان اسرائيل على استعداد ان تجلو عن سيناء وعن كل الاراضي المصرية على ان نتجاهل القدس والضفة الغربية وهضبة الجولان، وقلنا إن الانسحاب من القدس والضفة الغربية وهضبة الجولان، يجب ان يكون قبل الانسحاب من سيناء، لأن هذه المعركة هي معركة قومية عربية”. عندما سأله ممثل مصر في المباحثات مع الادارة الامريكية عن الحد الأدنى للمطالب المصرية، اجاب عبد الناصر “حدنا الأدنى هو القدس وحقوق الشعب الفلسطيني”. جملة قصيرة تمثل كل معاني الأنفة والشهامة والإيمان العميق بوحدة مصير الامة.
برهن الشعب العربي في مصر، مستلهماً بقيادة عبد الناصر، على ان الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية لم يعن إلا خسارة معركة، وأن لظى الحرب ستبقى ملتهبة. في الاول من تموز/ يوليو 1967 هاجمت قوات الصاعقة المصرية دبابات للكيان الصهيوني في منطقة بورفؤاد، ودمرت عدداً منها في معركة سميت برأس العش. في 15/14 من نفس الشهر، قصفت طائرات مصرية مواقع للعدو في سيناء وحصل اشتباك جوي، نتج عنه سقوط مقاتلات للعدو الصهيوني. في اول تشرين الاول/ اكتوبر 1967 شنت القوات البحرية المصرية هجوماً بالصواريخ على المدمرة إيلات وتم إغراقها، وهنالك معلومات تشير الى اغراق مدمرة أخرى، اسمها يافا، عائدة أيضاً للأسطول الصهيوني. وقامت البحرية المصرية كذلك بغارات على ميناء إيلات في 1970/1969 أسفرت عن تدمير سفن ومعدات والرصيف العسكري اضافة الى مقتل وجرح عدد من البحارة الصهاينة. هذه المعارك تمثل غيضاً من فيض من المواقع التي اشتبكت فيها القوات المسلحة المصرية مع العدو خلال حرب الاستنزاف.
القوات التي في 6 تشرين الاول/ أكتوبر 1973 عبرت قناة السويس، واقتحمت خط بارليف، كانت بمثابة قوات عبد الناصر من حيث الاعداد والتدريب والتجهيز. أولى أولويات عبد الناصر، بعد النكسة، كان تأسيس جيشٍ عصريٍ، من قادة اكفاء، ومقاتلين مندفعين، وجنود مسلحين بأحدث ما يمكن الحصول عليه من اجهزة ومعدات وعتاد. وفي هذا السياق، اضاف جيشين جديدين الثاني والثالث، واستحدث منظومة قوات الدفاع الجوي لتكون القوة الرابعة بجانب القوات البرية والجوية والبحرية. هذه المنظومة هي التي بنت على الجانب الغربي من قناة السويس حائط صواريخ ارض جو، الذي حمى المجال الجوي المصري، ومكن القوات البرية من عبور القناة، وذلل للقوة الجوية دك مواقع العدو في سيناء المحتلة.
عندما احتد الاقتتال بين فصائل المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني، أرسل عبد الناصر رئيس اركان قواته المسلحة الى الاردن حاملاً رسالة الى العاهل الاردني بتاريخ 21 أيلول/ سبتمبر 1970، جاء فيها: “ان المقاومة الفلسطينية ظاهرة من أنبل الظواهر التي أسفرت عنها نكسة يونيو 1967. وأريدك بأمانة ان تعرف اننا لن نسمح بتصفية المقاومة الفلسطينية”. في ذلك الوقت، كان عبد الناصر يعاني من وعكة صحية منهكة، اقتضت ادخاله مصحاً في مرسي مطروح للتعافي. في ظل ظروفه الصحية، كان في امكانه، كما يفعل الحكام (الاصحاء) الحاليون، الاكتفاء باصدار بيان مفاده “ان مصر تنظر بعين القلق لمجريات الامور في الاردن، وتطلب من الاطراف المعنية ضبط النفس الخ”. الا انه، رغم مرضه وعلالة قلبه، عاد الى القاهرة ودعا اليها الرؤساء العرب لعقد مؤتمر طارئ. بدأت الاجتماعات في 23 أيلول/ سبتمبر واستمرت لأربعة أيام مرهقة قاسية تمخضت عن اتفاق بين النظام الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية لوقف الاقتتال. من اجل المقاومة الفلسطينية والتضامن العربي، ضحى عبد الناصر بأعز ما يملك، اذ صعدت روحه الطاهرة الى بارئها في 28 أيلول/ سبتمبر 1970، وتيتمت بذلك أمته التي شيعته بملايينها في جنازة حزن واسى لم يشهد لها العالم مثيلا.
فقدت الأمة عبد الناصر ولم يبلغ من العمر سوى 52 عاماً، فقدته الأمة عندما بلغت خبرته من معترك الحياة أوجها، فقدته وكانت في امس الحاجة له. بعد غيابه الجلل تعرضت الأمة إلى سلسلة من المصائب كان من الممكن تفاديها بحضور عبد الناصر المهيب، وقيادته الحكيمة، ونفوذه الرشيد، وعزيمته الفذة؛ مصائب أهلكت الأمة: الحرب الأهلية اللبنانية، واتفاقية كامب ديفيد، والحرب الإيرانية/ العراقية، واحتلال الكويت، والغزو الامريكي للعراق وتداعياته الكارثية. بوفاة عبد الناصر فقدت الامة قائداً تزعم ثورة تحالفت، وتألبت كل قوى البغي والضلال: استعمارية وصهيونية ورجعية وطائفية، على محاربتها لوأد توجهها الوحدوي التحرري، وسحق طموحها النهضوي، واهلاك عزيمتها لتحقيق مجتمع الكفاية والعدل، وتدنيس انجازاتها.
تعرض عبد الناصر، اثناء حياته ومنذ وفاته ولحد الان، لحملات اعلامية رهيبة من الدجل والافتراء والغش، حملات تعكس حقد محرضيها اللئيم وخوفهم العميق من قائد حررت مسيرته طاقات الأمة على مجابهة الظلم والتشرذم والاستغلال، وبلور نهجه قدرات الأمة على تحقيق الازدهار والرقي والرشاد، واطلقت ثوابته عزيمة الأمة على نصرة الكادحين وقهر الفاسدين ومقارعة المستكبرين. يشهد التاريخ وتبرهن الحقائق، رغم كل تلفيق وكذب وتدليس المضللين، لقي عبد الناصر ربه، وشمس مصر العروبة تسطع، وعزتها تسمو، وشعبها ينجز، وجيشها يقارع، واقتصادها ينمو، وأدبها يرتقي، وفنها يعلو، وثقافتها تطغي، ومعاملها تنتج، وحقولها تخضر. حسين هو الاسم الثالث لعبد الناصر، التلاقي في الاسماء يمتد الى التوافق في النهج. مما لاشك فيه، ان التوجه الناصري تجانس مع مسيرة سيد شباب أهل الجنة، الحسين عليه السلام، المناهضة للظلم والفساد. من الحق القول، ان عبد الناصر استشهد (باذن الله) مؤمناً ومحتذياً بالمقولة الخالدة والمبجلة لسيد الشهداء: “هيهات منا الذلة”. السلام عليهما يوم ولدا ويوم استشهدا ويوم يبعثان حيين.
*كاتب وأكاديمي عراقي
شاهد أيضاً
ترمب ومعضلات الشرق الأوسط!
د. سنية الحسيني* من الواضح أن الشرق الأوسط الذي خرج منه دونالد ترامب في مطلع …