محمد علي صنوبري*
أثبت تدخل “أنصار الله” في الحرب موقفهم العروبي والإسلامي الثابت تجاه القضية الفلسطينية، وما نلاحظه اليوم أنّ الفئات الشعبية العربية، بما فيها الشعب السعودي، أيدوا الخطوة اليمنية، وأثنوا عليها.
شنت قوات التحالف العربي حرباً شعواء على اليمن، استمرت نحو 8 سنوات متتالية، وراح ضحيتها أكثر من 377 ألف شخص، بحسب الأمم المتحدة. وتشير الإحصائيات الاقتصادية إلى تضرر الاقتصاد اليمني بنحو 200 مليار دولار، ناهيك بأزمات النزوح الداخلي وانتشار الأمراض والتدمير الكامل للبنى التحتية.
كل ذلك لم يمنع هذا البلد العربي الأصيل من الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني؛ وذلك لأن الشعب اليمني وقيادته يتشاركون قضية الظلم والتدمير والإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني.
قبل 3 أسابيع من اليوم، أعلنت الحكومة اليمنية عبر المتحدث العسكري باسم القوات المسلحة اليمنية الدخول في الحرب ضد “إسرائيل” بشكل رسمي وعلني. من الناحية العسكرية والجيوسياسية، يعدّ تدخل اليمني الرسمي في الحرب نقطة تحول مهمة للغاية، إذ إن هذا التدخل أظهر عجز الدول العربية أو عدم رغبتها في تقديم المساعدة الحقيقية للشعب الفلسطيني.
وفي الوقت الذي ترفض الدول العربية والإسلامية الغنية مقاطعة “إسرائيل” أو ممارسة ضغوط أكبر على حليفتها الولايات المتحدة لإقرار هدنة أو وقف إطلاق نار أو حتى فتح معبر رفح لإيصال المساعدات، فتح اليمن، البلد الفقير، جبهة جديدة للمقاومة ضد” إسرائيل”.
منذ ذلك الوقت، تحوّل يحيى سريع (المتحدث باسم الجيش اليمني) إلى أبو عبيدة آخر، ينتظر العالم تصريحاته، ويراقبون حسابه في مواقع التواصل الاجتماعي؛ لأنه يحمل لهم المفاجآت في كل تصريح.
إستراتيجية يمنيّة شاملة
على الرغم من التحليلات السطحية التي صدرت عن بعض المحللين الذين عدّوا دخول اليمن في الحرب حالة رمزية فقط، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أولئك الذين شككوا في قدرة الصواريخ اليمنية على الوصول إلى “إسرائيل”، فإن الجيش اليمني كان مجهزاً بخطة إستراتيجية شاملة وتدريجية للتعامل مع ملف “إسرائيل”.
بدأ اليمن حربه ضد “إسرائيل” عبر إطلاق الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة الموجهة بشكل دقيق. وكان على صواريخ “أنصار الله” أن تقطع أكثر من 1600 كيلومتر لتصل إلى الأراضي المحتلة. كما عمل الجيش اليمني على تفادي المضادات الجوية المصرية والسعودية بالمرور عبر البحر الأحمر، ومن ثم اجتياز خليج العقبة. وبالفعل فقد تسببت هذه الهجمات بخسائر بشرية ومادية كبيرة في “إيلات” الإسرائيلية.
ومتابعةً للخطة اليمنية العسكرية في المواجهة مع “إسرائيل”، فقد قامت القوات البحرية اليمنية باحتجاز السفينة الإسرائيلية “غالاكسي ليدر”، المملوكة لرجل الأعمال الإسرائيلي المقرب من الموساد “رامي أنغر”، كما قام الجيش اليمني باقتياد السفينة إلى السواحل اليمنية، واحتجاز طاقمها الذي يُعتقد بأنّ أغلبهم من الإسرائيليين.
إن ما قام به “أنصار الله” لا يعدّ من أعمال القرصنة أو الإرهاب بحسب القانون الدولي البحري؛ لأن يحيى سريع صرّح قبل أيام من احتجاز السفينة بأن الجيش اليمني سوف يستهدف السفن الإسرائيلية في المياه الإقليمية. كما نصح الدول الأخرى التي يعمل رعاياها في البحر الأحمر بالابتعاد عن أي عمل أو نشاط مع السفن الإسرائيلية. لذلك، إن احتجاز السفينة يأتي في سياق عسكري محض، ولا يمكن لـ”إسرائيل” الترويج لنظرية تعطيل التجارة الدولية أو تهديد الملاحة البحرية في البحر الأحمر.
وكعادتها في كل مرة تتعرض سفنها للاستهداف، نفت “إسرائيل” عبر وزارة دفاعها ملكيتها للسفينة التجارية، ونفت كذلك وجود إسرائيليين على متن السفينة. تُذكرنا هذه الحادثة بحادثة استهداف السفينة الإسرائيلية “ميرسر ستريت” عبر طائرة مسيرة انتحارية قبالة سواحل عُمان في تموز/يوليو 2021، والتي راح ضحيتها اثنان من طاقم السفينة الإسرائيلية.
والغريب في التصريحات الإسرائيلية هو أنه لو لم تكن هذه السفينة مملوكة لـ”إسرائيل”، لماذا إذاً كل هذه التهديدات والتصريحات التي تطلقها ضد اليمن؟! يبدو أن نفيها المستمر لملكية السفن التي تتعرض لهجمات في الخليج أو البحر الأحمر وباب المندب يوفر لها ملاذاً للفرار من الرد العسكري على هذا الاستهداف.
على أي حال، يبدو أنّ “أنصار الله” يعرفون جميع التفاصيل الاستخباراتية لهذه السفينة وغيرها من السفن الإسرائيلية التي تمر عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب. جاء ذلك عبر تصريح وزير الإعلام في حكومة الإنقاذ الوطني ضيف الله الشامي الذي أكد أنّ لدى صنعاء معلومات عن كل السفن الإسرائيلية التي تعبر البحر الأحمر. وبناء على ما تقدم، فإنهم يعلمون جيداً أن أغلب العاملين في السفن الإسرائيلية إسرائيليون مزدوجو الجنسية، ويحملون جنسيات أجنبية أخرى.
اليمن يعطّل الاقتصاد الإسرائيلي
تحدثنا أعلاه عن الخطة الإستراتيحية المتكاملة لـ”أنصار الله” في تدخلهم في الحرب إلى جانب إخوتهم في فلسطين؛ هذه الخطة التي بدأت عبر استهداف “إيلات” بالصواريخ والمسيرات.
وقد جاءت عملية احتجاز السفينة لإكمال تعطيل ميناء “إيلات” والممرات البحرية المؤدية إليه. يدرك العالم أجمع، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، أهمية مضيق باب المندب ومياه البحر الأحمر للتجارة العالمية، حيث يمر عبر هذا الممر المائي نحو 6.2 مليون برميل من النفط الخام يومياً، إضافة إلى نحو 30% من التجارة العالمية للغاز التطبيعي، وتمر عبر هذا المضيق 10% من إجمال التجارة العالمية.
لهذه الأسباب، يأتي تحرك “أنصار الله” تحدياً للولايات المتحدة التي تنشر سفنها وحاملات طائراتها الحربية في المنطقة، والتي وقفت عاجزة أمام قوات الجيش اليمني التي احتجزت السفينة عبر زوارق بحرية بدائية وعمليات إنزال جوي.
بالإضافة إلى التأثير العالمي لهذه العملية، فإن هناك تأثيراتٍ اقتصادية خطرة على “إسرائيل” تتمثل بقدرة “أنصار الله” على تعطيل طرق إمدادت “إسرائيل” بالبضائع الأساسية التي تمر عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب، والقدرة على تعطيل ميناء “إيلات” في جنوب الأراضي المحتلة، والذي يعد أكثر الموانئ الإسرائيلية حيوية إلى جانب ميناء حيفا.
بشكل عام، لدى “إسرائيل” 5 ممرات بحرية لتأمين وارداتها من النفط والغاز والبضائع الأساسية، أهمها عبر مضيق باب المندب الذي يسيطر عليه الجيش اليمني.
الممر الاستراتيجي الأول يعد عصب الاقتصاد الإسرائيلي، وهو الممر الذي يصل الهند بـ”إسرائيل” مروراً بخليج عدن وباب المندب والبحر الأحمر، وينتهي إلى ميناء “إيلات” في جنوب فلسطين، و30% من واردات “إسرائيل” (بقيمة نحو 30 مليار دولار) يمر عبر هذا الممر.
الممر الثاني هو الممر المائي الواصل بين أميركا الجنوبية و”إسرائيل”، والذي يمر كذلك عبر المحيط الأطلنطي، ومن ثم خليج عدن وباب المندب والبحر الأحمر وصولاً إلى ميناء “إيلات”.
بعد سيطرة “أنصار الله” على السفينة الإسرائيلية، ظهر عمق تحليل ورؤية قائد الثورة والجمهورية الإسلامية السيد خامنئي لعناصر القوة التي ستلجم “إسرائيل”؛ فتأكيده ضرورة إيقاف تصدير النفط والبضائع إلى “إسرائيل”، ومن ثم دعوة الدول الإسلامية إلى قطع علاقاتها معها، ولو لمدة محدودة، يدل على أنّ الاقتصاد الإسرائيلي سينهار بشكل كامل لو التزمت الدول الإسلامية بهذه النصائح، وامتنعت عن أن تكون ممراً للنفط والبضائع إلى “إسرائيل”، سينهار، وأن الأخيرة سوف تتوقف عن الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني.
تغيير لمجرى الحرب وتعزيز موقف المقاومة
يعد تدخل اليمن في الحرب إلى جانب غزة تجسيداً حقيقياً لمفهوم وحدة الساحات، الذي يعني إشغال العدو على جبهات متعددة، وهو تطبيق عملي للرسالة التي أرسلها قائد “قوة القدس” الجنرال إسماعيل قاآني إلى قادة المقاومة الفلسطينية، والتي أكد فيها أن المقاومة الفلسطينية أظهرت للعالم أجمع أنّ “إسرائيل” أوهن من بيت العنكبوت، كما أكد التزام محور المقاومة وقادته بمنع العدو من الوصول إلى أهدافه القذرة، وأن محور المقاومة سوف يقوم بما يلزم في هذه المعركة التاريخية.
من النتائج غير العسكرية المهمة التي ستحققها عملية احتجاز السفينة والتدخل اليمني الكلي في الحرب إلى جانب الإخوة في قطاع غزة، هو تعزيز موقف المفاوض الفلسطيني على طاولة الحوار. وجاءت ورقة التفاوض الرابحة هذه في وقت راوغت ورفضت حكومة نتنياهو أي عملية لتبادل الأسرى أو لوقف إطلاق النار لأكثر من 45 يوماً، ولكن وبعد العملية اليمنية بشكل مباشر، بدأ الإسرائيليون يتحدثون عن تقدم كبير في التوصل إلى صفقة تبادل أسرى وإقرار وقف لإطلاق النار لمدة 5 أيام متتالية.
وعلى الصعيد الإقليمي، أثبت تدخل “أنصار الله” في الحرب موقفهم العروبي والإسلامي الثابت تجاه القضية الفلسطينية، وما نلاحظه اليوم أنّ الفئات الشعبية العربية، بما فيها الشعب السعودي، أيدوا الخطوة اليمنية، وأثنوا عليها.
كما تحدثت بعض التقارير الإعلامية عن قرب توقيع اتفاق مصالحة بين الفرقاء اليمنيين، وهذا كله إن دل على شيء، فهو يدل على أن اليمن اليوم، وبالرغم من كل المؤامرات والفتن التي زرعتها الولايات المتحدة في المنطقة، يتحول إلى قوة إقليمية وجيوسياسية لا يمكن تجاهلها أبداً.
*رئيس تحرير مركز الرؤية الجديدة للدراسات الاستراتيجية