الخميس , مايو 15 2025
الرئيسية / اراء / المسكنات الأمريكية والضحك على التاريخ!

المسكنات الأمريكية والضحك على التاريخ!

خالد شــحام*
أمضيت معظم الأيام الماضية في معاناة مع توابع الإصابة الموسمية بنزلة برد حادة، السخونة والصداع والتهاب الحلق والشعور بالهزال كلها أعراض تعرقل التفاصيل اليومية وتحول دون عمل شيء أو إنجاز أية مهمة كما ينبغي، المهم أنني أصررت على عدم تعاطي أي علاج محاولة مني لإثبات أو فعل شيء لا أعلم ما هي غايته، مع ساعات الفجر صار لزاما بأن أزور طبيبا او جهة ما لإيجاد وسيلة لتخفيف الحرارة حتى يمكن النوم دون التحديق في كوابيس غزة التي تقيم في ناظري وتخفيف القشعريرة المتزايدة، لقد أعلنت استسلامي.
عند حواف الثالثة فجرا كنت أدور في الشوارع الخالية حتى عثرت على عيادة متواضعة مضاءة الأنوار في عتمة الليل وبرد الهواء، في داخل العيادة يقبع طبيب عجوز قرب مدفأة، محدقا عينيه في شاشة أخبار الجزيرة، تشعر للوهلة الأولى بأنه لا ينتمي لهذا العصر، طلبت منه مباشرة دون وعي إبرة (فولتارين) !، لم يتكلم الرجل إلا ببضع كلمات، سألني بطريقة عصبية : لماذا تريد أخذ إبرة من الفولتارين؟ هل حضرتك طبيب؟: لا لست كذلك ! لكنني أريد شيئا لتخفيض درجة حرارتي المرتفعة!
هز الرجل رأسه ندما ثم انحنى مقتربا وتكلم بصوت معاتب : هل تعرف ما هي مصيبة العرب منذ الأزل وحتى يومنا هذا؟! ….مصيبتهم أنهم يبحثون عن علاج الأعراض للكوارث التي تصيبهم ولا يبحثون عن علاج الأسباب الحقيقية والجذرية لما يولد هذه الأعراض!…. أنت تريد علاج السخونة التي تدب في جسمك لكنك نسيت أن تفكر بما يسبب هذه السخونة وتطالب بعلاجه ! ….بعدما خرجت من العيادة تفكرت طويلا في عبارة الطبيب طوال طريق العودة إلى المنزل.
نقترب من ثمانين يوم حسوما تحاول خلالها دويلة الكيان الصهيوني مدعومة بتحالف مكشوف من الولايات المتحدة والغرب وتحالف خفي من رئاسات (عربية ) أن تطيح بقوى المقاومة الفلسطينية في غزة وذلك من خلال الفتك بالمدنيين ومسح معالم المدينة مسحا مطلقا وتحويل القطاع إلى مسرح متكامل للموت وإثبات القوة والجبروت، تكاملت معالم هذه النذالة والجريمة مع ما جرى بالأمس في مجلس الأمن في الأمم المتحدة .
العقلية السياسية الإجرامية التي تقف خلف هذا الحلف والتي تشتغل الان في غزة تقتيلا وإرهابا تفكر وتعمل بنفس الآلية والعقلية التي شرحها الطبيب العجوز بكلمات مختصرة، ففي نظر الولايات المتحدة وعصابة الصهاينة أن إيقاف العمليات ضد (الاسرائيليين) والبحث عن السلام المزعوم في المنطقة لا يتم إلا من خلال إيقاف وقمع كل أعمال المقاومة وتطبيق سياسة البطش والحملات العسكرية وممارسة الاعتقال والهدم والقتل والتصفيات الجسدية والوقائية وتنصيب الوكلاء والخونة في مواقع الرقابة والنفوذ على الشعب الفلسطيني وفوق كل ذلك حرمان أهل القطاع من كل أشكال المساعدات والشعور بالحياة.
هذا التفكير القصير النظر والذي يعالج الأعراض فقط هو الذي وضع المنطقة العربية وحتى العالم كله منذ سنوات طويلة في عين العاصفة، في داخل فلسطين المحتلة تعمل عقلية المحتل وفقا لنفس هذه النظرية الأم والتي انتقلت بدورها إلى الأنظمة العربية البالية والتي راحت تطبق قاعدة علاج الأعراض ونسيت الجوهر والجذور الأساسية المولدة لهذه الأعراض، تؤمن دويلة الكيان بأن الفتك بغزة والضفة ومطاردة الشبان الفلسطينين واعتقالهم في الليل والغارات على جنين ومدن وأحياء الضفة سيوفر لها الأمان وإيقاف ظاهرة (التطرف ) التي تسوقها على العالم، تؤمن هذه العقلية الإجرامية بأن فرط الدم والقتل والهدم والحرمان داخل غزة سيقود إلى استسلام كامل غير مشروط للشعب الفلسطيني أولا والمقاومة الفلسطينية ثانيا، تروج الرواية الصهيونية للشعب المغضوب عليه رواية أن حماس هي عدو الشعب اليهودي والسنوار هو رجل شرير يمثل رأس المطالب لإنهاء كل الجرح الناجم عن 7 أكتوبر، وكما تلاحظون فهم يفسرون ويحللون ويقدمون الأسباب والمسببات والحلول وفقا لنفس المذهب السلوكي والفكري ولا يزالون يعالجون الأعراض والحمى دون الإلتفات إلى المسببات الأساسية لالتهاب المنطقة من الاحتلال والاستيطان و وحشية المستوطنين وطرد السكان الأصليين والاعتداء على الشجر والحجر والإنسان العربي وسرقة حقوقه ومصيره.
أحد أسباب عمى البصيرة هو ان العدو لا يريد أن يدرك بأنه قد خسر معركة غزة ولذلك يستمر في معالجة أعراض ضعفه دون أن يتنازل ويفهم الجوهر، في داخل أية معركة أو صدام يقاس القطر الكروي للهزيمة عادة بثلاث أداوت في سياق الحسابات، الأداة الأولى المباشرة هي حجم وتعداد الخسائر المادية المباشرة التي لحقت بالبنية العسكرية للخصم، تشمل هذه الاحصائيات الأفراد والقطع العسكرية والبنية الهندسية الداعمة ومدى تضررها او نجاتها ولا داعي هنا لنوضح لكم من الفائز خاصة مع انسحاب قوات جولاني من أرض غزة، الأداة الثانية لقياس الهزيمة هي ميزان التخويف أو الرعب، هل تمكن جيش العدو من تحقيق إرتفاع كبير في ميزان الرعب لدى المدني الفلسطيني في غزة أو غيرها؟ فليخسأوا في ذلك فما زاد هذا أهل فلسطين إلا عزيمة وقوة، هل تمكن الفلسطينيون من رفع منسوب الرعب في قلوب هؤلاء؟ نعم، لقد تمكنت المقاومة الفلسطينية والعربية اليمنية واللبنانية من تحقيق رقم قياسي في تخويفهم وارعابهم حتى اللحظة ومادامت الصواريخ تدك المدن المحتلة وتطالهم حيث هم فالرعب موجود، ومادامت دباباتهم ومدرعاتهم تعود محترقة ومشتعلة وجنودهم مغطون بالأكفان فالرعب موجود، وما دام الناطق بإسم الكتائب ظاهرا للحق ناطقا به فالرعب موجود وما دام الأسرى بين أيدي المقاومة فالرعب موجود .
الأداة الثالثة لقياس الهزيمة هي هزيمة الفكرة التي تقاتل لأجلها، الفكرة الوجودية التي يقوم عليها هذا الاحتلال وهذا العدوان والتي لا تتعدى نفس الاسطوانة القديمة البالية في قصاصات من كذب قديم متجدد حول معاداة السامية وشعب الله المختار والارهاب والهراء الذي مَلَّه العالم أجمع، لقد سئم العالم من الابتزاز اللامتناهي وهذا الإذلال والاستغلال الذي يتعرض له على يد هذه العصابة وحقوقها التاريخية المدعاة التي يحوطها الدم والقتل والإجرام غير المتوقف، حيال هزيمة هذه الفكرة الوجودية تقابل الفكرة الفلسطينية بكل فلكها العربي -الإسلامي وذات العدالة والشرعية والحضور الأخلاقي بكل تجسداته، انظروا لشروط المقاومة الفلسطينية لتحرير الاسرى لتدركوا عظمة الفكرة والرسالة.
لقد هُزِمت (اسرائيل ) هزيمةً مريرة بكل المحاور وكل الأبعاد، داخليا وخارجيا وحتى مستقبليا، لقد هُزِمت هذه الفكرة السوداء في ضمير التاريخ لأنها إساءة للتاريخ والمستقبل، لقد هُزِمت لأن شعوب الأرض ستحاكمها مهما طال الزمان ومهما تباعد المكان على هذه الجريمة التي لا تغتفر، لقد هُزِمت لأنها اقترفت ولوثت يديها بالدماء الطاهرة والبريئة وسرقت ما هو ليس حقها ولا هو من طاقتها ولا من مقدراتها، لقد هُزِمت لأنها تجاوزت كل خطوط الكفر والآثام والخطايا الكبرى التي لا يمكن ان تغتفر، لقد هُزِمت (اسرائيل ) و بهزيمتها المتكاملة الأركان هذه تسببت في كسر ضلع آخر من أضلاع الشرالأمريكي الأصيل وعجلت في نهايته وتهاوي زمانه .
نهج الخداع الأمريكي القائم منذ زمن طويل على معالجة الأعراض وترك الأسباب الحقيقية للصراع دون علاج هو الفتيل الذي سوف يؤهل كل موضع في هذه المنطقة إلى حقل جديد للموت والنار بل حتى في كل موضع من العالم، قبل شهور ساكنة طويلة كان الكل يعتقد بأن غزة دُجِنت في حالة معلقة إلى الأبد بين الهدنة والحرب تحت تأثير (فولتارين) الحصار والمساعدات، وفي ذات السياق كان اليمن يدخل برنامج مساعدات الأمم المتحدة كبلد منكوب ومكسور الخاطر والحال، واليوم يقود اليمن الشرف العربي إلى مكانته وتقود غزة معركة الأمة المتفرجة، لبنان الان يبدو في معزل وامان عن النوايا الصهيونية بسبب عدم قدرة هذا الكيان على مقارعة خصم أشد عتيا في الظرف الراهن، لكن لبنان سيكون في القريب وغير البعيد مسرحا لساحة صراع أشد نارا، مصر ودول الخليج التي تؤمن بأن الضمانة الأمريكية هي ضمانة النجــاة والمناعة كلها حقول مؤهلة لإندلاع الصراع وتشابك القوى ليس لأن البعض قد يرغب أو لا يرغب في معركة، بل إن المعركة مفروضة فرضا حتميا لأن الحلول فاشلة وغير مجدية وكلها تعالج أعراض الحمى كتلك التي ألمَّت بي، حقل النار العاجل الذي يتحضر جيدا وبأسرع مما نتخيل جميعا هو حقل الضفة الغربية الذي يبدو للبعض صامتا أو مسيطرا عليه، هذا الحقل الذي يخيف العدو الصهيوني و يحاول إعطاءه إبرة الفولتارين لتخفيض درجة حرارته وإعادة بعث بعض المومياوات الميتة فيه مثل صاحب الوجه الكالح من فرط الخيانة أو صاحب الأسنان المتسوسة من سكريات العمالة أو صاحب العيون الضيقة من فرط الوساخة لن يفيده بشيء ولا يعفيه من شيء .
مع اقتراب الأمريكان والصهاينة للعب الورقة الأخيرة في حربهم هذه ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية بمزيد من العلاج بالفولتارين المؤقت بتقسيم القطاع وجلب الخونة ووضع قوات دولية وزيادة جرعات المساعدات وما غير ذلك من الضحك على الذات وعلى الزمان، تتأهل المنطقة كلها لتكون كرة متكاملة من اللهب المتنقل من البحر الأحمر امتدادا إلى بؤرة النار في فلسطين وما حولها، أنصاف الحلول لن تنفع، المُسَكنات لن تنفع، استدعاء الوجوه الوسخة لن ينفع، اخرجوا من أرضنا وأعلنوا استسلامكم أمام هذه الشعوب، هذا هو علاجكم الوحيد لإنقاذ أنفسكم من الفناء المحتوم الذي ينتظركم .
*كاتب فلسطيني

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

 لا لسلام ترامب!

فؤاد البطاينة* لا قضية واضحة العدالة في هذا العصر وعبر القرون أكثر من القضية الفلسطينية، …