بقلم/ أحمد الشاوش
لا أجمل وأنقى وأصفى من الذكريات الجميلة وبراءة الطفولة وعنفوان الشباب وطموح الغد المشرق ، والعيش على ثرى زهرة المدائن صنعاء التي فتحت قلبها واسوارها وأبوابها وبساتينها وأسواقها للداخل والخارج، رغم العواصف السياسية.
مازلنا وسنظل مسحورين بفن العمارة الجميلة والدور الشامخة المرصعة بالاحجار والآجور والطين والمفارج الكبيرة والقمريات الملونة والزخارف البديعة والغرفها المتواضعة والطيرمانات المعانقة للسماء.
مدينة ساحرة بنوافذها وشبابيكها وأبوابها وحماماتها الشعبية ومساجدها وكتاتيبها ومدارسها التي أمتزجت بالادب والشعر والثقافة والفن والعلم وصناعة الحرف اليدوية والنشاط التجاري
كم نحن مشتاقين الى شربة ماء مبخر ، وجمنة قهوة وحيسي نرتشف منه رحيق القشر وخلاصة الخلاصة لـ ” البُن “الصعفاني والمطري والحيمي الذي يعدل المزاج .
ما أروع وألذ حياة الاباء والاجداد البسيطة وما أطيب اللحم البلدي المستوي على نار هادئة في “برمة” مصنوعة من الفخار ، ومقلى السلتة على مواقد الجمر الاحمر وما أشهى الملوج والشعير والبلسن والجحين وخيرات بلادي التي كان لها طعم وشم ورائحة تجذب انتباه العابر على بُعد أمتار.
كثيرة هي الذكريات والمشاهد الجميلة ، منازل مخضبة باللون الابيض وقصور مشيدة وبئر للمياة في كل بيت ، غرف متواضعة ومخازن للحطب والكباء والعلف ومجالس للمقيل ودواوين للضيوف واماكن للحيوانات ومدجات الدجاج ومطاحن للحبوب وتناوير يُخبز فيها ألذ وأطيب أنواع الخبز والطعام.
مدينة تكسوها الخضرة والفاكهة والاشجار السامقة من كل الاتجاهات واحواش جميلة تتزين باشجار العنب والبرقوق والفرسك والرمان والورد البلدي ، وسطوح يكسوها أجوال الشذاب والريحان والروائح العطرة ، ونظافة يومية على مستوى البيوت والشوارع والاحياء والدكاكين .
أسواق منظمة تنتشر فيها بائعات الورد والشذاب والرياحين واللبن والبيض والدجاج البلدي ، واخرى يباع فيها الفرسك الحميري والبرقوق والرمان والسفرجل والبلس العربي والجوز واللوز والبرقوق و ثالثة للحوح والخبز والكدم ، هكذا كانت صنعاء دُرة المدن في الستينات والسبعينات و الثمانينات تسر الناظرين.
لقد أثرت مدينة صنعاء في السواد الاعظم ممن وطأت أقدامهم ثراها وطاب به المقام وتغزل بعض الادباء والشعراء فيها وردد الفنانون اروع الالحان ، ووصفها الرحالة العرب والمستشرقين كأمثال الريحاني وغيره ، مبانيها الشاهقة ومناظرها الخلابة وجبالها الشامخة وسهولها وطبيعتها الساحرة واهلها ومدنيتها ورموزها وأثرياءها ، ووثق المؤرخون أدق تفاصيل واسرار المدينة العتيقة ، حتى قيل ان صنعاء حوت كل فن ..يا سُعد من حلها.
وشاهد الحال ان مطاعم ومخابز وحلويات ومقاهي صنعاء كانت من أشهر وألذ وأشهى وأنظف المأكولات الشعبية ، حيث أمتاز بيت لاهب بتقديم اللحم والسلتة مع الكبيبات والسوسي والمفحوسة والسبايا مع السمن والعسل ، كما ذاع صيت بيت حُميد والمذبحي ، بينما تخصص بيت الشوكاني في اللحم الغنمي والمرق وبيت حويس والعماد بالكباب والسلطة.
وكان للحلويات بيوت مشهورة من بينهم بيت الشعباني وبَلة والطبيب والهندي وقحزة واحمد الابي وغليس في صناعة الرواني والبقلوة والشعوبي والقطايف ومربى الجزر والدباء ، وتخصص آخرون في شراب الشعير والزبيب كبيت الجرباني وغيرهم ، بينما أشتهر بيت عبيد وغيرهم بصناعة الخل ، وسعدة بالدخش وحب العزيز والتوهم والقرع وبيت العزيري بالجنابي والاحزمة ما أكسبهم شهرة وسمعة طيبةفي العاصمة صنعاء.
لقد تغير اليوم كل شيئ في ظل غياب المسؤولية واخلاقيات المهنة ، تغيرت ملامح المدينة وعاداتها وتقاليدها وقيمها وطبائع الناس .. تشوهت المنازل التاريخية بالبناء العشوائي وغابت المعالم الاثرية والاحياء الجميلة والمتنفسات بالبناء الذي قضى على المنتزهات والمقاشم والبساتين الخضراءوأماكن السيول ، حتى المقابر لم تسلم من شياطين الانس والايادي العابثة.
لقد أثرت الحياة المدنية في حياة المجتمع الصنعاني وكانوا ذواقين للاكل ، وما أن يتغير طعم ومذاق أكلة حتى ينتقدو صانعها علانية ويعلنوا سلاح المقاطعة بالتحول الى آخر فيضطر الى استعادة سمعته واسترضاء زبائنة ، بينما اليوم لم يعد لاهب بطعم ومذاق وبراعة الامس ولم يعد بيت حُميد في سوق الملح بنَفَس ومواصفات وسمعة الزمن الجميل.
لم يعد هناك ذواقين واحسا وأمانةورقابة فعالة بعد ان تمددت المدينة وتحول كل من هب ودب الى طباخ وحلواني وتاجر بقدرة قادر .. لم تعد البقلوة والرواني والشعوبي والقطايف الطيبة بحلاوة بيوت صنعاء المشهورة ولا بمواصفات الاتراك ، في ظل وجود الغش وارتفاع الاسعار والرشوة وفوضى المينة.
والعاشق لصنعاء يهيم في بساطة وتواضع ولطافة أهلها والتعبد في مساجدها وتلاوة القرآن وقراءة السنة النبوية ، قبل ان تغزونا الفضائيات التي مسخت أدمغة البعض وحولت ليلنا الى نهار بالافلام الهابطة والمسرحيات التافهة والاغاني الساقطة والاخبار المفبركة وحالات الشهيق والزفير والنعيق التي انتجت جيل تائه.
مازلنا وسنظل نتذكر دروس الفقةوالفرائض والحديث وعلم الكلام والفلك والتفسير والحساب وأصول البيع والشراء والمعاملات التي أنتجت جيل مسلح بالعلم والمعرفة حافظ على توازن المجتمع المديني ، رغم بعض الشطحات النادرة والنادر لاحكم له.
تحلق بناظريك في حواريها الفاتنة واحيائها الجميلة وبساتينها الخلابة ومقاشمها الخضراء وأسوارها المرتفعة وأبوابها الحصينة وعاداتها وتقاليدها واعرافها الاصيلة التي تحولت الى قبلة للسياحة الداخلية والخارجية في زمن الامن والاستقرار والمدنية ، لتنعم بالجو الجميل والطقس المعتدل والمناخ المتنوع وفصول السنة العجيبة التي ربما تشاهدها او تشعر بها في اللحظة.
مدينة فاتنة تَغلق أبوابها ، المتمثلة في باب اليمن وباب شعوب وباب السباح وباب القاع وباب الشقاديف وباب الروم،، ليلاً في زمن الائمة حياءاً وخجلاً كالمرأة الطاهرة، وخوفاًورعباً من امام مغامر أو شيخ مكور أوقبيلة جامحة تريد اسقاطها تحت رماح القوة وتجار الحروب ، ليدخلها اليمنيون في الستينات من كل حدب وصوب تحت قاطرة الثورة والنظام الجمهوري والدولة واحلام الغد المشرق مع أول زامل وانشودة جمهورية من قرح يقرح ، في تحول عجيب رسم ملامح ” الامل” لليمنيين والسير في دروب المجتمع المدني بعيداً عن الجهل ، لنشهد حالة من الامن والاستقرار والتسامح والتعايش والانصهار بين جميع فئات المجتمع اليمني بزيديته وشافعيته واسماعيليته وعلمائه واحزابه ومثقفيه .
مدينة تسحرك برونقها وجمالها ونظارتها وازقتها الضيقة التي تدفعك الى جولة سياحية اودوره لتمتع ناظريك بالتجول في أحياء وحارات طلحة ، وداود ، والفليحي ، ومعمر والعلمي ، والابهر ، والقاسمي ، وبستان شارب، وبحر رجرج، والميدان والباشة ، وسبأ ، والقاسمي ، والجامع الكبير والبكيرية ، والطواشي ، وياسر ، وخضير ، ونصير والطبري والقزالي وغيرها من المعالم التاريخية والمباني القديمة التي تُسعد القلب .
وان ذهبت الى سوق العنب ، ستجد الفواكة بإنواعها ، وان وصلت الى سوق الملح ستجد جميع انواع الحبوب ، وان التفت يمين ستجد سوق العطارين ، وشمال ستجد سوق البز ، والمحدادة ، وان ذهبت الى جمرك الزبيب سترى اًصنافاً متنوعة منه ، وان دخلت الى سوق المعدن والنحاس والمنجارة ، والجنابي والاحزمة والعسوب والفضة والذهب ، والمدايع ومكائن الخياطة والنحاس والكوافي الشعبية وحتى سوق الحمير ، ستجد انها بنيت بطريقة تراتبية ولاتزال بعض معالمها حتى اللحظة شاهد عيان ، ماجعل مدينة صنعاء ” فاتنة” وجذابة.
وان تنقلت بين مساجدها ستُذهل برسالة الجامع الكبير وحلقاته العلميةوالفليحي وطلحة والنهرين ومسجد الامام علي والشهيدين والمتوكل وقبة المهدي والبكيرية والمشهد والزمر ودادود والطاووس وبروم والقاسمي والطبري والنزيلي وستشعر بروحانية خاصة في العبادة ، ورُغم التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية العجيبة ، ما زلنا نحن الى الزمن الجميل فهل يعي أبناء صنعاء المكانة الرفيعة لمدينتهم الجميلة وهل يوقف المسؤولون العبث بالمدينة وطرازها المعماري الفريد وهل يُحافظ نحو ستة ملايين يمني احتضنتهم المدينة على نظافتها وامنها وأستقرارها.. أملنا كبير؟.