اسيا العتروس*
مع كل يوم يمضي من حرب الإبادة المفتوحة في قطاع غزة يواصل أهل غزة من أطفال أو نساء أو أطباء أو إعلاميين تقديم أنبل وأعظم الدروس التي سيدونها التاريخ وتحفظها الذاكرة جيلا بعد جيل مهما كانت نهاية هذه الحرب الظالمة التي تحمل في مختلف محطاتها كل وثائق الإدانة للاحتلال الذي يمارس محرقة العصر.. بعد صرخات أطفال غزة الذين فقدوا كل أفراد عائلاتهم وظلوا يرددون “لن نرحل” وصرخات المسعفين وهم ينبشون الأنقاض لإخراج الأحياء من الركام وبعد رسائل الدحدوح وجيش الإعلاميين المرابطين لكشف الحقائق ونقلها للعالم وبعد كل صور أمهات الشهداء اللاتي يحملن توابيت أبنائهن تأبى غزة الى أن تقدم للعالم كل يوم شهادة سقوط بل وموت الضمير الإنساني العالمي إزاء ما يتعرض له أهلها من موت بطيء ..
ما قام به أحد الأطباء في غزة وهو يحول مطبخ بيته الى غرفة للعمليات لإنقاذ ابنة شقيقه الغائب في بلجيكا بعد تعرضها للقصف ومقامرته بإخضاعها لعملية جراحية لبتر ساقها وإنقاذ حياتها جدير بالعالم أن يتوقف عن الكلام ويمتنع عن الثرثرة بعد كل ماسي غزة ..
أقسم بابقراط , أب الطب وسيد أطباء عصره وصان القسم بما توفر لديه من إمكانيات وهي قليلة.. هاني بسيسو اسم سيدونه التاريخ وستدونه منظمة الصحة العالمية وكل المنظمات الإنسانية والحقوقية التي فشلت في الاستجابة لاستغاثة غزة ..
المشهد الذي تم تداوله على المواقع الاجتماعية كان قاسيا ولا يمكن لكل لغات العالم أن تصفه ولم يكن بإمكان من تحامل على نفسه وتابعه الا يكون شعر بالمرارة والحزن.. هاني بسيسو هو الطبيب الغزاوي الذي كان يجري عملية جراحية وهو يبكي وينقل للعالم معاناته ومعاناة كل المؤسسات الطبية في غزة التي باتت أثرا بعد عين.. داخل البيت المحاصر بالدبابات وعلى بعد أمتار من مستشفى الشفاء قام بعملية بتر ساق فتاة في السادسة عشرة من العمر.. لم يكن لديه من خيار اما ترك الفتاة تموت وهي تنزف أو إنقاذها ولكن بأي ثمن وأي طريقة.. يقول الطبيب هاني بسيسو انه فكر في حملها وإلقائها على أول دبابة إسرائيلية تعترضه.. ولكن درايته بالاحتلال جعلته يتراجع عن ذلك فهو يعرف جيدا أن أي خطوة قد تكلفه حياته وحياة مريضته التي سيتعين عليه مغالبة مشاعره وإنقاذ حياتها بما توفر لديه من الات في المطبخ …
..كانت الطفلة عهد نائمة عندما تعرض بيتها للقصف وقد يكون من حسن حظها أو سوء حظها أن عمها كان متواجدا بحكم محاصرة الجيش للبيت وستعيش عهد ساعات طويلة من الأوجاع والصبر والتحمل وهي تخضع لعملية جراحية دون تخدير أو تعقيم معتمدا على طاولة الطعام وبعض المطهرات المتوفرة فيما بقي من البيت ..
طبعا هذا ليس فيلما من أفلام هوليود ولكنه مشهد يومي قادم من غزة التي دمرت بيوتها ومستشفياتها ومدارسها ومساجدها وكنائسها وكل ما يمكن أن يؤشر لوجود الحياة فيها ..
عهد بسيسو وهاني بسيسو مأساة تختزل معاناة غزة على مدى أكثر من ثلاثة أشهر دون أن يتحرك للعالم أو يهتز له طرف لإنهاء المحرقة التي تجاوزت محارق النازيين..
سكين وخيط وبعض السوائل كانت أدوات طبيب العظام هاني بسيسو لإنقاذ ابنة شقيقه التي أصيبت وهي تحادث والدها المقيم في بلجيكا.. ربط الشريان بخيط الخياطة واستعان بقارورة بها مياه لتطهير الإصابة… وانبرى يخاطب العالم الأصم أن ينظر الى ما يقترفه الاحتلال في حق أطفال غزة بعد أن بلغت حصيلة من بترت أعضائهم من الأطفال حتى الآن أكثر من عشرة آلاف بما يعني أن غزة إذا ما توقفت الحرب سيكون لديها جيل من أصحاب الأطراف المبتورة بسبب حرب الإبادة القذرة ..
يقول الطبيب هاني بسيسو “كان قراري الأخير في حالة دخلت البنت في غيبوبة ولم أتمكن من السيطرة على الحالة.. واستمر النزيف سأحملها وأتوجه بها مباشرة لأصعد على الدبابة الإسرائيلية لنقلها للمستشفى.. لأنه البنت لازم تعيش بأي طريقة”.
تقول منظمة “أنقذوا الأطفال” إن أكثر من 10 أطفال في المتوسط يفقدون إحدى ساقيهم أو كلتيهما كل يوم في غزة منذ السابع من أكتوبر، في حين تتم العديد من عمليات البتر دون تخدير.. حكاية عهد بسيسو واحدة من حكايات كثيرة عن آلام غزة ربما لم تبلغ العالم بعد …قد تلتئم جراح عهد يوما ما وقد توفر لها رجل اصطناعية ولكن جراح عهد النفسية شانها شان كل أطفال غزة وضحاياها لن تجد لها بلسما أو دواء مهما طال الزمن ..
لا تسألوا عن رد فعل سلطات الاحتلال فهي تواصل التحقيق للتأكد مما حدث.. حكاية هاني وعهد بسيسو وثيقة إضافية من وثائق كثيرة يجب أن تقدم للعدالة الدولية لإدانة الاحتلال الإسرائيلي على ما يقترفه ..
*كاتبة تونسية