د. طالب أبو شرار*
هو سؤال على كل الألسنة: لم تتركون أهلكم في غزة يذبحون على مرأى منكم؟ ألا تسمعون صرخات المكلومين وأنات الموجوعين؟ ألا تشاهدون الأواني الفارغة في أيدي الأطفال الجوعى والعطشى والمصطفين طويلا للحصول على طبق من “الشوربة” وهل تغني “الشوربة” من جوع؟ ألم تسألوا أنفسكم: أين ينتهي مصير الجرحى؟ كل الجرحى بما في ذلك من لحقت به جروح قطعية بسيطة ربما لا تحتاج لأكثر من عدد من القطب الطبية ومضاد حيوي وبعض الضمادات لتوقف عدوى فتاكة تنتهي بالموت البطيء. ألم تسألوا أنفسكم كيف يبيت الأطفال في خيم من البلاستيك الشفاف الذي لا يصد الرياح ولا يحول دون تسرب مياه الأمطار الى فرشات الإسفنج الخفيفة؟ هل تساءلتم: كيف ينام أولئك الأطفال الجوعى والعطشى والمقرورون؟ هل تستطيعون الصبر ساعة من الزمن في مثل تلك الظروف؟ بل هل تساءلتم كيف يقضي أولئك النازحون حاجاتهم الطبيعية؟ هل تعرفون معاني الإنسانية والكرامة؟ ألا تشاهدون أمما بعيدة كل البعد عن غزة تتظاهر ضد الصهيونية وتنتصر لفلسطين ولأهل غزة؟ ما بالكم عفا لله عنكم! ألم تشاهدوا الطفلة الجريحة المكلومة وهي تسال الممرض أو الطبيب الذي يرعاها: عمو هادا حلم والا بجد (هل هذا حلم أم حقيقة)؟ آه! ثم ألف آه! ما كنت أحلم يوما برؤية بني قومي في موقف ذلة كهذا الذي أرى!
لم يطلب منكم أحد أن تهبوا لنجدة غزة! لا ليس المطلوب أن توجهوا طائراتكم التي دفعتم عشرات بل مئات المليارات من الدولارات لقاء اقتنائها، ربما للاستعراض أو لأسباب أرخى حتما ليس من بينها أمر اسمه الأمن القومي العربي. كل الشعوب العربية تتفهم ذلك لكن أليس بإمكانكم التناغم مع الضمير الإنساني الذي يحرك الشعوب وبعض الحكومات غير العربية على امتداد الساحة العالمية؟ هل من الصعب عليكم إعلان مناطق مجاورة تماما لأسوار غزة الشائكة والعالية “حمى إنسانيا” أجل مجرد حمى إنساني محصور بأسلاك مكهربة تستقبلون فيه الجرحى فقط؟ تضمدون جراحهم وتعالجونهم ثم تعيدونهم الى غزة. لا بأس! تعيدونهم الى غزة لأنكم تخافون من عدوى الرجولة والعزة إن بقوا بين ظهرانيكم. ألا تستطيعون أن تدخلوا الى غزة أدوية ومعدات طبية بل ومستشفيات ميدانية؟ هل أنتم مسلوبو الإرادة الى هذه الدرجة؟ أين استقلالكم وسيادتكم؟ ألا تستمعون الى صرخات الرجال والنساء والأطفال وهم يهتفون: كفى يا عالم! أين العرب؟ ألا تعرفون أبجديات العمليات الحسابية؟ ألا تعرفون ما يعنيه رقم 150 أو 125 شهيدا كل يوم؟ يا إلهي: كل يوم! ماذا يعني ذلك في الشهر أو في السنة؟ لقد خسرت غزة في أربعة أشهر من الغزو الصهيوني ما يعادل 5% من سكانها، شهداء وجرحى ومعوقين! قولوا لي أي أمة في التاريخ الحديث خسرت في ذات الفترة مثل هذه النسبة من أبنائها وبناتها؟
وأنتم يا أبناء جلدتي الأطباء العرب في كل التخصصات، أليس من المعيب أن نستمع الى تصريح لمسؤول طبي في غزة يقول إنهم استقبلوا أطباء وطلبات تطوع من أطباء حول العالم باستثناء الأطباء العرب! ألا تعرفون أن أبناءكم وأخوتكم وأمهاتكم وأباءكم في غزة يعانون كل أصناف الأمراض والأوجاع! ألم تسمعوا بأنباء العمليات الجراحية بدون تخدير؟ ألم يأتكم نبأ الطبيب الذي أجرى لابنه عملية بتر ساق بدون تخدير فمات ابنه من الألم؟ ألم تشاهدوا بكاء الطبيب المكلوم؟ ألم تسألوا أنفسكم كيف سيعيش ذاك الطبيب المفجوع وصراخ ابنه يصم أذنيه؟ هل سيغفر لكم تخاذلكم؟ أهل غزة بحاجة الى وقوفكم الى جانبهم. هم بحاجة حتى الى معونة نفسية تهدئ من روع المكلومين وتبث الطمأنينة في نفوس من عايشوا أهوال القصف الإسرائيلي الإجرامي لبيوتهم وشاهدوا أشلاء أبنائهم تتطاير شذرا في الهواء أو خرجوا أو أخرجوا مذهولين من تحت الركام الذي ابتلع بقية أحبائهم. تستطيعون أن تضغطوا على حكوماتكم لتمكينكم من نجدة أخوتكم في غزة. لا تقولوا: حاولنا ولم نفلح! لن تستطيع حكوماتكم اعتقالكم بتهمة نصرة الأبرياء في غزة! إن كنتم صادقين مع أنفسكم ستصنعون “المستحيل”! ستتطوعون وستوفرون ركائز الدعم الطبي والإغاثي الإنساني لمن منحوكم لحظة انتشاء وزهو وكبرياء قبل أسابيع معدودة.
أنتم تدركون أن عدونا يريد أن ننسى تلك اللحظة من تاريخنا المطرز بالهزائم! إنهم يريدون تأديبنا بما يفعلونه من جرائم الإبادة وتدمير كل مظاهر الحياة في قطاع غزة لنقول لأنفسنا: ليتنا بقينا مكبلي الأرجل والأيدي والألسن ولم نخطو تلك الخطوة التي جلبت لنا كل هذه المآسي! هذا ما يسعى اليه الصهاينة المهزومون بذلة من فئة قليلة صابرة فهل تمكنونهم من ذلك؟ أهل غزة يقولون ملء الفم الواحد ذات الكلام الذي نطق به فتى والدماء تنزف من وجهه: إحنا من غزة! إحنا أبطال! بالله عليكم لا تخذلونهم حتى لو جاءت نصرتكم متأخرة فأن تهبوا لنصرتهم متأخرين خير مليون مرة من أن تبقوا قاعدين!
يا أخوتي يا أبناء أبي وأمي! يا أبناء الأماجد من عدنان وقحطان! هل نسيتم وصف معاوية ابن أبي سفيان لغريمه السياسي السابق الأحنف ابن قيس عندما دخل عليه ولم يخاطبه بلقب أمير المؤمنين فاستثار استهجان حاشيته. قال لهم معاوية: صه! هذا الرجل إذا غضب، غضب له سبعون ألف فارس لا يسألونه فيما غضب! فما بالكم لا تغضبون أمام كل تلك الفظائع التي يرتكبها عدونا جميعا بحق أهل غزة؟
غزة اليوم بحاجة الى العون الطبي والإغاثي الإنساني لكن سيضاف الى ذلك صنوف من أنماط العون المادي والتقني بعد انسحاب أولئك التتار ان شاء الله قريبا وليس بعيدا. لقد دمروا عامدين كل صنوف ومقومات الحياة هناك. هم يحلمون بخراب غزة بعد أن لم يحقق لهم البحر حلمهم المريض بابتلاع غزة ذات صباح. قولوا لي من منهم تصرف لمرة واحدة كإنسان؟ وأنتم يا أخوتي وأحبتي لا بد وأن تؤسسوا بدءا من اليوم وليس غدا هيئة إغاثة عربية. أنا أعرف أن هناك العديد من هيئات الإغاثة الصغيرة المنتشرة هنا وهناك لكن دعونا نتعلم قيمة الجهد الجماعي فننتظم في هيئة عربية كبرى ذات وزن، ربما تغنى أولئك المظلومين والمشردين في مخيمات اللجوء عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التي أصبح تمويلها في مهب الريح. دعونا أيضا لا ننسى أخوتنا في العالم الإسلامي وفي الإنسانية فنحفز الخيرين منهم على إنشاء هيئة ثانية إسلامية وثالثة دولية للغوث الإنساني لغزة. لندع تلك الهيئات الشعبية تتنافس فيما بينها بمنجزاتها.
غزة بحاجة الى إعادة إعمار شامل على كل الأصعدة. هل رأيتم كيف جرف أساتذة الإجرام الإنساني كل مناحي الحياة هناك. لقد استمعت الى تصريح مصحوب بالتصوير الموثق من رئيس بلدية بيت لاهيا يقول فيه: لقد جرف العدو عشرين ألف دونم هي كل أراضي بيت لاهيا الزراعية التي تنتج ما يستهلكه القطاع من محصولي البندورة والبطاطا. لقد جرفوا أيضا الدفيئات الزراعية بما فيها من بنى تحتية كمضخات وأنظمة الري بالتنقيط ونظم التسميد. أزالوا بيوتات الدجاج اللاحم بما فيها من نحو مائة وخمسين ألف طير كانت تعد للاستهلاك الآدمي. دمروا شبكات ومحطات الصرف الصحي وآبار المياه العذبة وكل المواقع الصناعية ومدخلاتها. لم يتركوا شبرا دون تخريب حتى البيوت التي سلمت من القصف الوحشي أحرقها جنودهم الأنذال. عفوا! أولئك ليسوا جنودا بل أفراد عصابات لأن هناك شرفا للجندي لا يلوثه بسلوك مشين. الجندي لا يقنص النساء والأطفال والطاعنين في السن. الجندي يسعف عدوه الجريح ولا يجهز عليه أو يقف حائلا بينه ومن يسعى لإسعافه! لو كانت على قيد الحياة، ماذا ستقول فلورانس نايتنجيل في ذلك؟
غزة إذن بحاجة لكل أبناء الأمة الخيرين: أطباء وصيادلة وحقوقيين ومهندسين مختصين في الإنشاءات المدنية بكل أشكالها والعمارة والبيئة والصرف الصحي ومحطات التنقية والزراعة بصنوفها والهيدرولوجيا، باختصار هي كل العلوم الإنسانية. من أجل ذلك، نحن بحاجة الى هيئة الإغاثة العربية التي أرى أن واحدة من أولياتها لا بد وأن تكون البدء في توفير قوائم بأسماء وتخصصات المتطوعين العرب الراغبين في المساهمة بعلمهم وجهدهم لإعادة إعمار غزة. لنقف جميعا صفا واحدا من أجل إعادة إعمار غزة ولنعمل معا على إدانة أولئك المجرمين الذين جلبوا كل هذا الدمار ولنعمل على مقاضاتهم وسوقهم الى العدالة الدولية. لقد حلب اليهود ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية بحجة مآسي المحرقة وثرواتهم المنهوبة ففرضوا عليها تعويضات لم ينته مسلسلها بعد فهل آن الأوان لتدفيعهم أثمان مسلسل جرائمهم بحق الوطن الفلسطيني وأبنائه والتي بدأت قبل نحو قرن من الزمان وما تزال مستمرة!
*كاتب أردني
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …