عبدالرحمن مراد*
الحرب في المنطقة اليوم في ذروة اشتعالها، وبدأ الغطاء يتكشف عن فكرة الشرق الجديد، وهو موضوع بدأ قديما ثم اختفى وها هو اليوم يعود للعلن من خلال التناولات الإعلامية الإسرائيلية له، ويبدو لي أن هيمنة إسرائيل على القرار العربي بدأت تؤتي ثمارها فلم يبق من يقاوم مشروع إسرائيل سوى محور المقاومة، وها هي الحرب تُشن عليه وهي تتسع لتشمل كل المحور وبتعاون من محور الشر العالمي الذي يتمثل في الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وبتواطؤ من الأنظمة العربية.
الحرب سوف تستمر ولن تنطفئ جذوتها مهما حاولت الترسانة العسكرية فعله، ففكرة الصراع الأيديولوجي والمعرفي بين اليهودية والإسلام بدأت منذ بواكير الإسلام الأولى حيث كان الصراع في بواكيره الأولى صراعا عسكريا انتهى بهزيمة اليهود وشتات أمرهم وضعف شوكتهم، ثم تحول الصراع إلى صراع معرفي وأخلاقي وتفكيك قيم وزرع قيم، وتداخل مع الفكرة العقائدية حتى تخرج عن فطرة الله من خلال وضع الأحاديث المكذوبة على الرسول الأكرم، حيث نشط اليهود في هذا المجال نشاطا ملحوظا فوضعوا الاحاديث ونسبوها إلى رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، وظل الجدل حولهما قائما إلى أن استطاع الكثير من العلماء فرز ما استطاعوا، وظل الكثير باقيا يبرر لبعض الجماعات الكثير من الأفعال اليوم .
لم ينطفئ جمر الحقد اليهودي منذ فجر الإسلام إلى اليوم، وبالتالي فالصراع العقائدي ظل مشتعلا منذ الدعوة إلى زمننا، والتأثير الذي أحدثوه في النسق الثقافي في زمن الخلافة ما يزال فاعلا في تنمية الموجهات التي تخدش وجه الفطرة ووجه الإسلام، فكل الحركات والجماعات الإسلامية أو التي تدعي الغيرة على الإسلام اليوم، هي نتاج ذلك الاشتغال الذي تأسس في زمن الخلافة، ذلك أن الاحاديث التي اصطلح أهل الديار الإسلامية على تسميتها بالإسرائيليات، جاءت في زمننا المعاصر من يثبت بعضها ويقر بصحته، وينفي الآخر ويقول بضعفه، فشاع في تيار أهل السنة والجماعة على وجه الخصوص التسليم والإقرار، فأي موجه يقره الألباني يصبح فاعلا ثقافيا ومحركا وجدانيا يحتج به الخطباء والمرشدون من تيار أهل السنة والجماعة وحين يسلمون بصحة النص المنسوب إلى النبي يلوون ألسنتهم بالدلالة القطعية للنص القرآني، ولذلك نجد عند الكثير من أهل السنة الثبات فالقرآن عندهم ليس موجها بل نصا مقدسا ثابتا يتعبدون به، وهم أكثر ميلا إلى السنة التي يرون فيها التفسير الحقيقي للقرآن، ولذلك التبس عليهم الأمر وانحرف المسار ووقفوا بكل رباطة جأش ضد من يقول بفعالية القرآن وحيويته في صناعة الحيوات والحضارات وبناء الإنسان .
اليوم نشهد نتائج هذا الانزلاق الفكري والثقافي الذي حدث منذ زمن مبكر فأحدث انحرافا حقيقيا، هذا الانحراف أضعف الطاقة الكبيرة التي يحملها الإسلام في صناعة حيوات البشر بما يتسق وقوانين الفطرة السليمة، وترك هذا الانحراف آثارا واضحة على المسلمين فتاهوا وغلبت عليهم الذلة والمسكنة وقد حذرهم الله من ذلك وضرب لهم الأمثال في القرآن ولكنهم لم يفقهوا .
انقسم المسلمون إلى طائفتين في المسار التاريخي، طائفة وقعت تحت تأثير الاحاديث التي اصطلح الفكر الديني على تسميتها بالإسرائيليات، وأخرى مالت إلى العقل في تفسير النص القرآني وإلى الفطرة في التفاعل مع المستويات الحضارية والثقافية التي تتطور بالضرورة في بناءات المجتمع الإنساني، ولذلك نلمس اليوم صورة غير سوية للإسلام الذي يعتمد على النصوص المنسوبة إلى الرسول ولم يجزم أحد بصحتها، فقد عاد هذا الإسلام إلى الزمن القديم ورفض كل تفاعل حضاري وأراد صناعة مجتمع يشبه المجتمع القديم الذي نشأ فيه الإسلام، وليس ببعيد ما كانت تقوم به داعش والقاعدة حيث شاع في أوساطهم سبي الحرائر وبيعها بالدرهم القديم والدينار دون الاعتراف بالعملات الورقية السائدة في زمننا المعاصر فضلا عن استحضار مظاهر الزمن القديم في واقع الحياة المعاصرة .
في مقابل تلك الصورة القاتمة والسوداوية نجد تيارا مقابلا يحاول أن يقدم إسلاما حضاريا فاعلا ومتفاعلا وصانعا ومتطورا يمتاز بالعزة والكرامة وبقوة الذات في الصراع مع الآخر وهو التيار الثابت على المبادئ والقيم الذي لم يفرط في ثوابت الأمة والمتمثل اليوم في محور المقاومة الإسلامية الذي ينمو بقوة واضطراد، وها هو يتوحد في خطاب سياسي وثقافي وديني حتى ينتصر لقضايا الأمة الكبرى، فلم يذهب إلى التطبيع ولم يفرط في المقدسات وظل ديدنه العام هو إعلان الوجود في عالم يسعى جاهدا على إلغاء وجوده، وهو يخوض معارك كبرى اليوم في محاور شتى عسكرية وثقافية ووجودية .
ولم تكن فكرة يوم المقاومة إلا فكرة بسيطة انطلقت كنتيجة منطقية لفكرة التهويد والتطبيع قبل عقود من الزمن وقد برز صوتها عاليا بعد فكرة الإبراهيمية التي انطلقت عام 2017م، وها هي اليوم في هذا المحك التاريخي لتصبح فكرة ملء السمع والبصر، فالحالة التفاعلية بلغت ذروتها عند شعوب العالم الإسلامي وقد انكسر تيار الباطل فلم نعد نحس منهم من أحد أو نسمع له ركزا، فالذين زايدوا بالقدس قديما سقطوا في وحل التطبيع ونحن نشهد خنوعا وذلا وهوانا لهم، في مقابل ذلك نشهد العزة والكرامة والقوة في محور المقاومة الذي خاض ويخوض معاركه المباشرة وغير المباشرة مع الكيان الصهيوني، فلم يبك على منابر المساجد كي يستدرج عطف الناس ويستخرج أموالهم بل بادر وجاهد وخرج من دائرة القول إلى دوائر الفعل، وهو يخوض معاركه العسكرية بكل قوة واقتدار ونأمل أن يولي المستوى الثقافي الاهتمام الكافي، فالمعركة ليست عسكرية بقدر ماهي ثقافية والصراع الثقافي أشد خطرا من غيره وتعاضد الجبهات في هذه المعركة هو العامل الأهم في الانتصار فيها .
*نقلا عن الثورة