د. بلال اللقيس*
ربما لم يشهد تاريخنا الحديث معركة اختلط فيها التفسير والتقييم لماهية الربح والخسارة وتحديدهما كما هو الحال مع نموذج “طوفان الأقصى” .
كاننا امام مناظير سياسية غير معرفة من قبل او جديدة على بعض مدارس السياسة الواقعية .
ان تكسب تكتيا وتخسر استراتيجيا، ان تكسب استراتيجيا وتخسر جيوبوليتيكا ان تكسب استراتيجيا وربما جيوبوليتيكيا وتخسر حضاريا، ان تخسر حضاريا يعني ان تخسر وجوديا وبالتالي نصير امام حلقة مفرغة .
كما انه قد تكسب عسكريا وتخسر سياسيا وربما في هذه المعركة تم إماطة اللثام عن مفاهيم القوة والاستطاعة وبنية القوة وإدارة القوة، والقوة الموجبة والأخرى السالبة، ومتى يمكن ان تتحول القوة إلى قدرة وتستحيل شرعية ومقبولية …
هذه بعض الإشكالات او الاسئلة الكبرى التي ولدها طوفان الأقصى وما ارتبط به وربما تقلب المفاهيم وتؤسس لنقد يشتمل في علوم الاستراتيجيا والسياسة.
ما يجعلنا ندعي ان هذه الإشكاليات شقت طريقها إلى علم السياسة هو حدث طوفان الأقصى وما يتمخض عنه من نواتج حتى اللحظة وما هو آت .
ففلسطين كقضية خاصة واستثنائية في عالمنا وطرفي الصراع المتصارعين عليها والبيئة التحولية دوليا كلها شكلت العوامل والعناصر التي تعيد تفسير كثير من الأشياء او ما اعتبرت “حقائق” في السياسة والتقييم ذات يوم .
فقضية فلسطين التي تتميز بحيزها الحضاري وعمقها الإنساني وسعتها الوجودية بحيث لا تضاهيها قضية او مسألة في عالم اليوم، والتحول الذي يمر به عالمنا اليوم وما أنتجه من سياقات مغايره يجعل كثير منا اعتبرناه ثابتا جعله متحركا نسبيا، فثار هناك حاجة لتعريف الثابت للبناء عليه، واعتبرت مسالة احتكار التفسير اهم ثابت حاول الغرب إقناع العالم به بالتضليل او بالقسر . كما ان التداخل بين السياسي والثقافي والجغرافي والهوياتي والغاية والوسائل، وتداخل مختلف الابعاد والمجالات زاد من صعوبات تحديد المصالح . ان التمييز بين مجالات السياسة والاقتصاد والتقانة والعقلنة والثورنة باتت تعاني من سيولة وتداخلت الاليات بالأغراض ناهيك عن تعقّد اكتشاف الدوافع للفعل فاختلطت الدوافع كما الحدود بين المجالات، ولم يعد مقدورا إلا لمتبحر او شبه نبي ان يصنف ويفسر ويعيد هندسة النتائج الكلية المتمخضة عن تفاعلات المجالات وتداخلها وتثقيلها وانتخاب السياق الانسب لتفسيرها الواقعي . الفارق بين القوة وفاعلية القوة او القوة الفعالة والفرق بين القوة في مقام المنع والقوة في مقام الإثبات اصبحت وقائع جلية . هناك فعلا تشوش في الفهم للأمور والإمساك بركائز ومباني تفسير معنى الانتصار وتحديدها التي تنحو لتكون سياقية بغاليتها وترتبط بالعوامل اكثر منه بالعناصر .
ويزيد التعقيد في الفهم طبيعة وموضوع الاصطراع اي الذي نتصارع عليه “فلسطين” كما يزيد من التعقيد ( او يقلل منه) الفهم الصحيح لطرفي الصراع ( قوى المقاومة والكيان الصهيوني)، فالصراع جار اليوم على قضية تراها تلاحقك حتى إذا حاولت ان تهرب منها، تلاحقك ( كفرد ومجتمع ) اخلاقيا وإنسانيا واقتصاديا وسياسيا وقوميا، قضية ذات طبيعة رمزية وواقعية في آن، اوسع من حدودها وملامحها المادية .فلسطين اخطر قضية ومحكمة إنسانية وسياسية وحضارية في التاريخ الإنساني الحديث . هي بذاتها محكمة تمييز وفرز وتقعيد لاي فكرة بل هي منتجة المعايير والأفكار .
اما المقاومون والمجاهدون فهم ليسوا مجاميع مقاتلين بل مجتمعات مقاومة هم ثقافة سياسية واجتماعية . ليسوا حالة ظرفية بل امتداد زماني ومكاني وقيمي وتاريخي وتحرري في ارقى وأعلى موجاته، ليسوا ملك ذواتهم انما ملك الامة بل الإنسانية جمعاء وحاجة لها ؛ بدونهم تندرس معالم الارادة وصوت الإنسانية والحق وتمايز خطوط الفصل بين الجبهات ويندرس المعنى القويم لتفسير الحياة .
اما اليهود الصهاينة وكيانهم فهم ايضا امتداد للغرب وتمخضاته وافكاره، هم عقدة اتصالية لقوى الهيمنة في كل ساح ومكان وهم حاجة كل قوة هيمنة وامتداد طبيعي وعضوي للنظام الامريكي، لذلك لا يمكن التقييم بمعزل عن امتدادهم الهيمني من الأنظمة الغربية، لا يقاس الانجاز الإسرائيلي بذاته فقط بل بربطه بموقع النظام الامريكي والغربي عموما فقوة إسرائيل متداخلة بمكانة اميركا وسطوتها العالمية !! لذلك التقييم لمكسب او خسارة إسرائيل يلحظ ايضا مكاسب وخسارات اميركا البعيدة ولا يقيم بعيدا عن اميركا .
وعليه، فان المعركة الجارية هي حرب عالمية متعددة الطبقات بل هي الحرب العالمية الوحيدة التي حدثت حتى الان في العصر الحديث، لكل في هذا العالم كفل منها او سهم فيها بالمباشر او بغير المباشر، كل العالم يتفاعل معها حتى ولو لم يتاثر اقتصاديا او امنيا مباشرة جراءها، انه صراع خط الدفاع الاول عن الانسانية والقيم والمجتمعات والاستقلال .
وللتوضيح اكثر: لو نظرنا في حرب أوكرانيا في سنتها الثالثة وقارناها بحرب غزة سرعان ما تظهر فوارق كبيرة، حيث يتعقد في الثانية فهم الربح والخسارة مقارنة بالحرب الاوكرانية لأسباب تستحق التامل. الأولى تحكمها لغة واضحة تندرج ضمن لغة المصلحة والقومية والحيولوليتيك، اما الثانية فهناك فيؤثر في تقييمها وفهمها اكثر من مدار ونسق، فيصبح التقييم يحتاج لدمج كل هذا المدارات ومعاييرها بشكل كلي واكتشاف زاوية النظر الاسلم للتقييم الكلي من خلالها وعبرها واكتشاف السياق الانسب لوضع كل هذه المعايير في موضعه والتعيير المناسب .
مثلا إسرائيل ربحت تكتيا في قتل قادة المقاومة وفي ضرباتها في الايام الاولى وربحت تكتيا في حجم الدمار الذي احدثته ونجحت تكتيا في تجاوز تقليد الحرب الخاطفة والسريعة ونجحت نكتيا في اشغال عدة ساحات في آن، لكن هل اقتربت من تحقيق اهدافها ام ابتعدت ولا زال المشهد غائما جدا وبعيدا وهل هي أضعفت حزب إلا والمقاومة في جانب وقوته في جوانب اخرى !!.
فمثلا امكن القول ان إسرائيل ربحت تكتيا لكنها انكشفت امنيا في الأراضي المحتلة بالكامل لاول مرة في تاريخها ولأول مرة يغلق عليها بحر من البحرين وتخسر احتكار سرديتها عالميا، وتخسر شارعا فلسطينيا كان يستثمر لمصالحه ب “السلام”، وهي بقصد او بدونه جمعت ايران والعراق العالم العربي وكتلة كبرى من العرب والمسلمين لاول مرة في التاريخ الحديث وأوصلت اكبر تاييد ووعي موثر للقضية الفلسطينية في التاريخ واوصلت كيانها لاوسع عزلة دبلوماسية لإسرائيل منذ نشوءها واظهرت العجز عن حماية نفسها بينما كانت تريد تاكيد قوتها وصار مستوطنوها يتعودون على الملاجىء والعالم يعتاد ان تضرب تل ابيب كما واظهرت ايضا محدودية القدرة البرية ان لم نقل اهترائها عندما عجزت بعد حرب سنة ان تقضي على مقاومة غزة المعزولة أصلا او ان تحتل قرى الحافة مع لبنان، وشرعت بتكبرها الباب لتسريع التحولات التي تصيب الأنظمة الغربية ومواقف شعوبها منها بعد ان اصبحت تشعر بانفصام في شخصيتها وقيمها، وابعدت إسرائيل عنها – ولو لمسافة محدودة – عددا من الأنظمة العربية التي كانت تستعجل الخطى نحو الكيان واسقطت زيف جماعات كثيرة وقوى كثيرة في المنطقة عندما تبين انهم وإسرائيل في اجندة واحدة، وتراها قوت من مشروعية المقاومة وخطابها ووحدة المجتمعات المقاومة ومتانتها، واعطت لايران موقع الصدارة في المواجهة حين برزت كاللاعب الاول المتصدر التأثير والمشهد وتسير دول المنطقة تدريجيا لقبول ايران كفاعل من ضمن بنية المنطقة بعد عقود من العمل الصهيوني على جعل إيران معضلة المنطقة وتبرير الحضور العسكري الأمريكي لحماية أنظمة الخليج، وتبخرت فكرة إسرائيل كدولة قادرة على القيام بذاتها وظهر عمق تبعيتها للغرب واميركا (ظهر الامر ليس لنا فقط بل للجناح الاسرائيلي اليميني والقومي الذي طالما كان يحاجج انه دولة مستقلة القرار ولها مصالحها التي تقدرها وفق ما تراه مناسبا لها) واذ بها اضعف من تستمر لايام معدودات امام مقاومة ومجتمع جاد في غزة و لبنان، وانكشف ان التطور التقني ينجز قتلا وإبادات لكنه لا يحقق هدفا موجبا او فعالا البتة ؛ التقانة ربما تكون ضرورة لكنها ليست شرطا كافيا خصوصا إذا كنت في مواجهة مجتمعات متماسكة وهادفة وتمتلك روحا وارادة وامل قوي بالنصر، ايضا ولدت حرب غزة حنقا متفاقما عند المسلمين للانتقام من اميركا فالشارع العربي المسلم سيكون في الموقع المضاد لاميركا في اي اشتباك دولي متوقع اليوم وغدا ومع الاجيال حيث سينتهز اي فرصة للثار في لحظة ما، ورغم هول الضربات الإسرائيلية لكن جيل الشباب العربي والمسلم اصبح اكثر قناعة ورغبة وزخما في التزام مسار المقاومة وتدافعت الاجيال الجديدة بزخم لا مثيل له من قبل نحو مشروع المقاومة وبيقين اشد من ذي قبل بينما بزخم لا مثيل له من قبل نحو مشروع المقاومة وبيقين اشد من ذي قبل بينما يبدو المشهد في إسرائيل معاكسا تماما، وتتجه إسرائيل على وقع تحول “مضطرب” الى هوية جديدة سيؤثر على مستقبلها القريب وخصائصها ( سيطرت اليمين القومي على حساب الليبرالي فيما اعتمادها على اميركا ازداد ) . كما ان وزنها بعيون الخارج تضاءل بعدما ثبت انها لا تستطيع تترجم افعالها دون الاخر الغربي، وكيف ستقدم نفسها محورية اقليمية سياسية او اقتصادية او أمنية في ظل تدهور مكانتها ومباني القوة الفاعلة عندها ( اي القوة التي تفرض وقائع وليس الذي تؤلم فقط)، يبدو ان كلفتها ازدادت كثيرا بالنسبة للغرب الذي يمر هو ايضا بتحول عميق وهذا ما عليها التنبه له جيدا فكلفتها لم تعد تطاق بالنسبة لغرب يتغير .
ان إسرائيل الان إذا لم تحقق هدفها بإنهاء تأثير وفاعلية المقاومة في لبنان والقضاء التام على القضية الفلسطينية وإسرائيل الجديدة لن تستطيع ان تسقط حل الدولتين ولا ان تقضي على بنية المقاومة وفكرتها الاولى في نفوس الفلسطينيين والعرب وهي ستكون امام مشكلة أكبر وممتدة مستقبلا؛ ستصبح الدعوى التي يدعيها البعض ان “حروبها منذ 3 عقود لا تأتي بنواتج تامة بل هي اشبه بنظام ادارة الصراع المستمر للحروب!. وشعوب المقاومة إذا ما عادت وعمقت التفافها على مقاومتها كما نراه اليوم راي العين فإن ذلك سيولد موجة ومشروعية مقاومة اعلى واقوى مستقبلا وستكون إسرائيل امام حروب دورية دائمة مع فارق جوهري: ان العالم يتغير وبالذات الغربي، والمقاومات تتعمق شرعيتها بينما تتقلص بالنسبة للكيان الاحتلالي إسرائيل. لقد انكشفت أزمة الكيان وظهر ان مشكلته في بنية القوة لا في ادارة المعارك، هو فعلا كالعميل الذي مهما اشتدّت عمالته لكن يبقى عاجزا عن بلوغ الاهداف وتحويلها إلى معطى يبنى عليه .
حاولنا ان نقدم نظرة في هذا الصراع التاريخي وان نشير إلى توافر فرص كبرى لتحقيق اكبر نقلة في الارادة والوعي الانساني العالمي من بوابة انتصار المقاومين ورفعة مجتمعاتهم . ولا اظن ان احدا يجب ان يكون متعجلا في قراءة المشهد وتقييم النواتج فقواعد التقييم وتحديد الربح والخسارة بالغة التعقيد، لان نفس القواعد تتشكل وتتغير ومعايير اللعب في ملعب الصراع تتبدل . ينصح في الفلسفة السياسية التريث في الاحكام على ما نرى لان الحروب التي تجري في عالمنا اليوم وبالذات في فلسطين ولبنان باتت من النوع الذي يصعب الإحاطة بنواتجه وآثاره ومعايير تقييمها القديمة كما يستعجل بعض أغرار سياسيي العرب اليوم واللبنانيين منهم .
*كاتب لبناني