معن بشور*
كم كان مفجعاً لي ولأمثالي من العروبيين في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، والذين طالما رفعوا شعارات التكامل العربي – الإيراني – التركي، على مدى سنوات، وكانوا حريصين على التمييز بين أنظمة وأحزاب وحكام، وبين الشعوب التي تجمعها عقيدة وحضارة ومعاناة مشتركة من مخلفات الاستعمار، أن يسمعوا كلاماً من رئيس حزب شريك في الائتلاف الحكومي في تركيا، قاله في البرلمان التركي وصفق له النواب موالين ومعارضين حين قال أن “حلب مدينة تركية تركية تركية”.
طبعاً لا صلة لهذه الكلمة التي ألقاها رئيس حزب الحركة القومية التركية دولت بهشلي بالواقع، ولا تعبّر قط عن مشاعر أبناء مدينة كانت عبر التاريخ قلعة للعروبة الجامعة، التي كان الإسلام ولا يزال روحها وعمقها الحضاري، ولكن أيضاً هذا الكلام مناقض لكل ما كنا نسمعه منذ اندلاع الحرب الكونية على سورية على لسان المسؤولين الأتراك بحرصهم على وحدة سورية وسلامة أراضيها، رغم أن جيشها وأدواتها أصرّوا على البقاء لسنوات في مناطق شاسعة من الأراضي السورية، وهو ما دعا الرئيس بشار الأسد إلى الطلب من أردوغان أن يصدر تعهداً بالانسحاب منها من أجل استئناف المفاوضات معه حسب رغبة الوسيطين الروسي والإيراني وغيرهما..
فكلمة بهشلي وتصفيق أغلبية النواب الأتراك له لم تجاف الحقيقة فقط، ولم تترك جرحاً في الوجدان العربي فحسب، بل أيضاً كانت تعبيراً عن جهل عميق بحقيقة مدينة حلب ومشاعر كل السوريين من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، الذين يعزّ عليهم أن يروا علماً غير علم بلادهم يرفرف فوق قلعة حلب..
فعروبة حلب التي هي نموذج لعروبة الأمّة الممّتدة من المحيط إلى الخليج، هي عروبة جامعة لا تمييز فيها على أساس ديني أو مذهبي أو عرقي، تماماً كما هي حلب المعروفة بتكوينها مدينة العيش المشترك بين طوائف ومذاهب وأعراق تجسيداً لهذه الهوية الجامعة التي اسمها العروبة.
والعروبة في حلب لم تغب يوماً عن تاريخها الثقافي والحضاري والسياسي منذ قصائد أبو فراس الحمداني، إلى فكر عبد الرحمن الكواكبي، إلى وطنية سعد الله الجابري ورشدي الكيخيا، وعبد الوهاب حومد، ورزق الله انطاكي، وعبد الرحمن كيالي، وأمين الحافظ، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والمطران هيلاريون كبوتشي، والياس فرح، وأديب النحوي، وعبد القادر النيال، وعبد المجيد منجونة، وبروانت ارسلانيان، ومصطفى العقاد، وقدري قلعجي، إلى موقف جماهير حلب، لاسيّما في حي الكلاسة في رفض الانفصال في الجمهورية العربية المتحدة ودور حلب في انتفاضات وثورات انطلقت منها تدعو إلى إعادة الوحدة العربية بين مصر وسورية.
والعروبيون في أمّتنا يدركون تماماً أن ما يميّز عروبتهم هو أنها عروبة جامعة ذات صلة وثيقة بالإسلام وحريصة أن تكون حاضنة لكل الرسالات السماوية التي انطلقت من هذه المنطقة إلى العالم، وهي حاضرة خصوصاً في القدس عاصمة فلسطين حيث الأقصى المبارك وكافة المقدسات الإسلامية والمسيحية وحيث يجب أن تتجه أنظار وبنادق كل عربي حقيقي ومؤمن محتسب دفاعاً عن الرسالات والمقدسات.
والعروبيون في بلادنا يدركون أن لهم قضية مشتركة مع كل أبناء الإقليم، وفي طليعتهم الأتراك والإيرانيين والأكراد، بل مع كل أحرار العالم، وهي أن فلسطين هي المعيار لعلاقاتهم بكافة الشعوب والدول، لأن فلسطين قضية حق “من اقترب منها اعتز ومن ابتعد عنها اهتز”..
فكيف يصدر إذن كلام عن سياسي تركي مشارك في حكم الجمهورية التركية لا يجاف حقيقة الهوية العربية السورية لمدينة حلب فحسب، بل ينكئ جراحاً حرص كل عربي أو تركي مخلص على تضميدها وتجاوز ما خلفته من آثار.
على دولت بهشلي ومن معه أن يدرك أنه يستطيع أن يتحكم عبر أدواته في حلب أو غيرها من المدن السورية والعربية لفترة من الزمن، ولكنه أبداً لن يستطيع أن يعاكس الحقيقة الساطعة حول هوية المدينة التي سبق لها، كما لكل مدن سورية وأريافها، ولمدن الأمّة العربية وأريافها، أن طردت من أرضها كل من ظن أنه يستطيع التحكم بها لفترات طويلة.
وحتى لو تجاوزنا مسألة عروبة حلب، لكن تصريح بهشلي أنكر أيضاً سورية حلب، وهي العاصمة الثانية للجمهورية العربية السورية، بل هي العاصمة الاقتصادية لها، وهو أمر لا يخالف الدستور السوري في كل المراحل التي مرت بها سورية، بل هو يناقض وحدة الأرض السورية كما تقول كافة البيانات ذات الصلة بالأزمة السورية ومنها إعلانات الحكومة التركية نفسها.
يبقى السؤال المحيّر، هل يجوز أن يصدر هذا الكلام من سياسي تركي شريك في الائتلاف الحاكم في بلاده ولا ينبري له مسؤولون ومثقفون من البلاد العربية يردون على كلامه بإنكار عروبة وسورية مدينة حلب، بل كيف يمر هذا الكلام دون موقف من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والأمم المتحدة لما فيها من انتهاك صريح لسيادة دولة عضو في كل هذه المؤسسات، بل مؤسس فيها كسورية.
حلب يا سيد بهشلي عربية سورية وستبقى شاء من شاء وأبى من أبى
*كاتب لبناني