على الزعتري*
هكذا تبدو الصفحة العربية اليوم. رئيسٌ جديدٌ في لبنان. زعيمٌ جديدٌ في سوريا. سيِّدٌ جديدٌ لحزب الله. قادةٌ جُدُدٌ لحماس. مسحٌ للسلاح السوري الثقيل. رئيسٌ جديدٌ لأمريكا. ما شأنُ دونالد ترمپ بالصفحة العربية؟ ولو!! هوَ و أسلافهُ هم المُقَلِّبونَ لهذه الصفحات بما نعرف من وسائل وما نجهل. حسناً، نتمنى لكل الصفحات العربية الجديدة النجاح، لكننا نخشى أن نجاح واحدةٍ قد يكون في إفشالِ واحدةٍ غيرها. ونسأل الله لترمپ الفشل وأن يلاقي عاجلاً ومن في صفِّهِ الجحيم الذي يهددنا به.
عربياً، الحالةُ المُزمنةُ تقول بابتداء كل عهدٍ بصفحةٍ جديدةٍ من الوعود وإن عَنىٰ ذلك هدم ما كان. الجانب المُتفائلُ يرى في هذه الصفحات خيراً أما المتشائمُ فيرى انهياراً. بشكلٍ رئيسيٍّ انهياراً في رمز وفعل المقاومة و تهديداً لما تبقَّى منها. بعضاً من المراقبين والمتفاعلين يقول أنه في الواقع لا يمكن مقاومة الصهيوني بدون سوريا وأنها بقيادتها “الجهادية”، بما أنها صارت تقود دولةً، فهي المؤهلة لقيادة المقاومة. كما يقولون أنهُ من غير المتوقع ذوبان حزب الله والمقاومة الفلسطينية أو اليمنية أو حتى الحزبية العراقية المدعومة إيرانياً فهذه لا تزال حيةً وقويةً. لكن الواقعي مِنَّا يقول أن السلاح السوري الثقيل انتهى عندما دمرتهُ “إسرائيل” و أنها عندما احتلت مواقع في سورية كذلك دفعت قدرة سوريا العسكرية للوراء سنوات وعقود. كما أن “إسرائيل” تحتل من الجنوب اللبناني ما تريد ولا يبدو أنها ستتركهُ و هي تمسح غزة شعباً وعمراناً خالقةً واقعاً يهودياً واضحاً هناك وها هي تطالب بالتمدد في الأردن وتمهد لهذا عبر نشر خرائط و نصوص توراتية وتهدد مصر وهي تراها تتسلح فوق المرغوب صهيونياً. كما أنها ضربت الحزب بمقاتل عديدة و تصل اليمن كلما أرادت. فكيف ومن أين يأتي التفاؤل و”إسرائيل” تسيطر فعلياً على بلاد الشام وتهاجم في البُعدِ اليمني وتفرض إرادتها على المنطقة بمجرد فَرْدِ عضلاتها بمساندةٍ من الولايات المتحدة تحت جو بايدن و كما نتوقع تحت دونالد ترمپ؟
منطقياً لنا فإن “جهادية” سوريا تريد أن تبدأ من الصفحة الجديدة فهي وإن كانت تأسفُ لمحوِ القواعد والأسلحة السورية الثقيلة، وهي الإرث البغيض من “الفلول”، وتعلم أنها لم تكن لتتصدى للهجمة الصهيونية الأقوى وإن كانت فعلت لربما كانت ضُرِبتْ ولما استطاعت السيطرة على سوريا، فهي على الأغلب تلتزم بأنه طالما الروح جهادية والتسليح سيأتي، ولا تسألوا من أين فمثلما أتى لها كجهادية ولسوريا الدولة في الماضي فقد يأتي في المستقبل، فإن سوريا ستسود وتقاوم قَصُرَ الزمان أم طالَ. كما نأمل أن الجهادية السورية تؤمنُ بحتمية تحرير فلسطين، ليس لأن تحرير سوريا عندها كان جزءاً أساسياً للتحرير الفلسطيني ولكن لأن العقيدة التي تحملها لا تسمح بالتشكيك برفضها وقوع فلسطين تحت الاحتلال أو السيطرة اليهودية في المنطقة. وستبدأ كما نأمل ونريد بتحرير ما تحتله إسرائيل في درعا والقنيطرة والجولان. لكن في لحظةِ التفكير لبدء التحرير ستكتشف سوريا أنها لوحدها وأن للبعد الإقليمي المقاوم الذي عزلتهُ لدعمه لسوريا القديمة ولمذهبهِ الذي تَغَوَّل في البلاد قيمةً ينبغي حسابها فتبدأَ رحلةَ التفكير (الشاق)، إن لم تكن بدأت فعلاً، إن كان من العقيدة الصحيحة الغزلَ مع جهاديين في الجوار أم لا، هذا مع الافتراض أن “إسرائيل” نائمة عن النوايا الجهادية ولم توجه ضربات استباقية من شتى الأنواع في سوريا. لكن جهاديو الجوار نوعين من المذاهب و الجهادية السورية لا تميل للشيعيِّ منها وهنا المأزق. كما أنها للآن لم تُعلن عن مَدِّ يدها للمقاومة الفلسطينية السُنِّية وهنا الخوف من أنهما في شِقاق.
لنتوقف قليلاً ولنسأل: هل لا توجد مقاومة دون سوريا؟ هل تريد سوريا أن تقاوم الاحتلال وتحرر أرضها؟ هل تملك الإمكانيات، لأن إسرائيل ليست جيش “الأسد” الذي انهار في أيام؟ هل تؤمنُ بالتحالفات مع مقاومات لبنان واليمن والعراق وفلسطين كمبدأ مقاومة دون مذهبية؟ هل ستلتقي معهم مذهبياً ولو لفترةٍ تتطلبها استحقاقات المقاومة والتحرير؟ أم أن الجهادية السورية ستريدُ “تنظيف” سوريا وربما المنطقة مما هو غير مذهبها قبل أن تقرر أن تقاوم و تتحرر من الاحتلال الصهيوني؟ أم هل ستفضل سوريا الانضمام لمحور السلام العربي؟ وهل إن اتجهت للمقاومة، بأيِّ مذهبٍ، ستلاقي تعاطفاً ودعماً من هذا المحور وهي قد عملت وتعمل بجهدٍ لاكتساب صداقته في مسيرةِ التعافي والإعمار وهو محورٌ اختار السلام مع “إسرائيل” ولن يريد إزعاجاً لهذا القرار؟ هذا عدا عن الغرب الضاغط و وعوده رفع الحصار والعقوبات بمجرد حيازة سوريا الجديدة شهادة حسن السير والسلوك متعددة البنود ومنها على الأغلب التعهد بعدم الانخراط بالمقاومة وربما الانخراط في عمليةِ تطبيعٍ مع “إسرائيل”. كلها أسئلةٌ بدون جوابٍ في هذه المرحلة الشرعية و المُتَلَهَفِّ عليها من السوريين و “التأسيسية” لسوريا الجديدة. ولا تنفي كذلك حقيقةَ الخطر الاستعماري الصهيوني في سوريا. فكيف تُقلبُ هذه الصفحة السورية وماذا سيُكتَبُ فيها؟ نحن لا نعرف لأن قيادة سوريا الآن تنتظرُ استقراراً سياسياً سورياً متعدد الجهات و تدخلاتٍ متعددةٍ كلها يريد تشكيل سوريا على شاكلةِ مصلحةٍ لهذا وذاك وقد لا تتفق.
في الصفحات الأُخرى لبنانياً وفلسطينياً فإن التغييرات القيادية الدراماتيكية الدموية ترمي بظلالها المُعْتِمَة على المقاوم والجغرافيا التي يعمل من خلالها والمجتمع الذي يحيط به. يتصرف سياسيو المنطقة على أن محور المقاومة قد انكسرَ فعلياً. وما بقي منه يجب التصرف معه بالاستسلام، السلمي إن أمكن وبالقوةً إن رفض لنزع سلاحه. يتصرفون على أساس سيادة الشرعيات. ويدركون بلا شكَّ أنهم يستعملون الشرعية انتقائياً لمحو مقاومة و محو حقوق فكيف يمكن الاحتفاء بشرعيةٍ في ظل احتلال؟ إن محو الحق يحدثُ منذ عقود حينما فشلوا باسترداد الحقوق بالشرعية الدولية والتنازلات. وستفشل هذه المحاولات بالتأكيد وستصطدم بالرفض. قد نرى توسيعاً لمبدأ السلطة الفلسطينية في جنين يجري تطبيقه في لبنان بدعمٍ دولي وسيستمر الضغط على اليمن كما لو استكانت سوريا دون حقوقها والتزمت بالشرعية سبيلاً وحذت حذو مسار التفاوض لاسترداد الحقوق فكم من الوقت سيأخذها الانتظار وهل ستستطيع تغليف دولتها بعيداً عن أحداث المنطقة و التغول الصهيوني؟ هل يمكن لنا أن نكون قاسينَ بهذا الشكل على سوريا والسوريين؟ هل نجرؤ أن نطلب منها المزيد من التضحيات وهي ثخنى بالجروح العميقة؟ هل نستطيع أن نقول لها عودي لمحورٍ و وحدةِ ساحاتٍ رغماً عن الخلافات المذهبية الواضحة و السياسية بل وحتى الثقافية و التاريخية وبغض النظر عما بها ويحيطها من تحديات؟ بنفس المنطق، هل نستطيع أن نطلب من الفلسطيني واللبناني واليمني أن يقاوم وكلهم ليسوا أفضلَ حالاً من السوري؟ و هل نستقرُ علي الرضى بالسكون والقبول بأن “إسرائيل” وُجِدتْ لتبقى وأن الولايات المتحدة ترعاها وتدعمها ونحن بلا حول أو قوة؟
إن الآتي عظيم. خيالنا يُمَجِّدُ المقاومة و يريدها مستمرة و واقعها يقول عكس ذلك. الكثرة تغلب الشجاعة. كثرة الأعداء وكثرة الفقراء وكثرة الأغنياء بلا إحساس، بهذا المقياس المنتشر من شرقنا لغربنا. لا يُكَلِّفُ الله نفساً إلا وُسعها، و وسعنا اليوم ضيقٌ ولو اتسع.
*كاتب أردني
