د. فايز أبو شمالة*
رغم البرد القارص، ورغم عدم توفر الغذاء والماء في مكانٍ ناءٍ عن مقومات الحياة، في مكان مرتفع عن شاطئ بحر غزة، تغزوه الرياح الباردة، ولا توجد فيه دورة مياه للمرأة أو للفتاة لتقضي حاجتها، مكث عشرات آلاف الفلسطينيين على حافة الوجع ليلتين طويلتين، ينتظرون تطبيق اتفاقية الانسحاب الإسرائيلي من وسط قطاع غزة، ليعودوا إلى بقايا بيوتهم المدمرة، ويحتضنوا الأرض التي ضمت أفراحهم وأحلامهم.
المشهد المؤلم والمفزع لعشرات آلاف العائدين إلى شمال قطاع غزة هو مشهد مؤلم ومفزع للإسرائيليين أنفسهم، الذين يرقبون الأحداث على أرض غزة، ويتابعون أسطورة شعب لم يمت، وهم يرونه بهذا العناد الفلسطيني، والإصرار على عدم الهجرة، والقبول بالعيش تحت القصف الصهيوني، والجوع والإهمال والحصار، متشبثاً بحق العودة إلى المنزل المهدم، وإلى مرابع الطفولة، ليبدأ الفلسطيني حياته من تحت الصفر بدرجات، هذا المشهد الذي أغمض العالم المتحضر عنه عينيه، فتح عيون العدو الإسرائيلي إلى الحقائق العنيدة، والتي تؤكد أن الفلسطيني لن يهاجر من أرضه، ولن يستطيع ترامب بتصريحاته الجوفاء غير الإنسانية أن يطردهم من فلسطين، ولن يقبل هذا الفلسطيني الجائع العاري المشرد الضائع المسفوك دماً، والمنغمس بالجراح، لن يقبل عن أرض فلسطين بديلاً، حتى ولو طوبوا له جبال الأردن ونيل مصر العظيم.
الفلسطيني يعود إلى بيته المدمر فرحاً ومسرعاً، وهم يعلم أن المكان الذي يتواجد فيه بيته المدمر يفتقد لمقاومات الحياة، بلا مياه، وبلا كهرباء، وبلا صرف صحي، وبلا طرقات حفرتها الجرافات الإسرائيلية، في الوقت الذي لما يزل الإسرائيلي يرفض العودة إلى مستوطنات غلاف غزة، رغم العمار والرفاهية المتوفرة في مستوطنات الغلاف، فتجربة الخوف التي عاشها الصهاينة خلال معركة طوفان الأقصى، زرعت الرعب والقلق في نفوسهم لأجيال، وزرعت الثقة بالمستقبل في نفوس الشعب الفلسطيني.
الفلسطينيون العائدون إلى شمال غزة نموذج للقناعة الفلسطينية بأن لا حياة للفلسطيني إلا فوق تراب فلسطين، وما هذه اللهفة إلى العودة إلا نتاج تجربة فلسطينية متراكمة من عشرات السنين، فقد خبر الفلسطيني مذلة الهجرة سنة 1948، ووجع النكبة الكبرى مع الحياة على أرض غريبة، أرض لم تألف حياتهم، وحياتهم لم تألفها، لقد تغرب الفلسطيني، وهاجر من بلد إلى بلد، ليكتشف بعد عشرات السنين من الغربة أن الحنين إلى أرض فلسطين لا تطفئه السنين، وأن الحياة البسيطة على أرض الوطن لا تعادلها كل الثروات والكنوز التي جمعها الفلسطيني في الغربة.
عودة نازحي الشمال إلى بيوتهم المدمرة بهذه اللهفة لم تكن الرد العملي على دعوة ترامب لتهجير أهل غزة إلى الأردن ومصر، بل هلي الرد العملي على سياسة منظمة التحرير الفلسطينية التي وقفت موقف المتفرج من حرب الإبادة على أهل غزة، وفي عودة النازحين رسالة إلى قيادة المنظمة بأن تتدارك عجزها وقصورها وتخاذلها، وتقف مع شعبها، وأن تحترم إرادته، وأن تستمع إلى صوت المنطق والعقل، وأن تصير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بإرادة أهل فلسطين أنفسهم، لا بإرادة المنظمة العربية والاعتراف الإسرائيلي بها، وعلى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أن تثبت أنها الممثل الشرعي عملياً، من خلال عدم التفرد بالقرار، وعدم طرد ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني من دوائر منظمة التحرير، على قيادة المنظمة أن تحرص على ائتلاف الصف، ووحدة الهدف، وأن تتذكر أن مسماها منظمة تحرير فلسطين، وليس منظمة تقسيم فلسطين.
*كاتب فلسطيني