د.محيي الدين عميمور*
إثر نكبة 1948 ونتيجة لعمليات إبادة جماعية صهيونية، يتضاءل أمامها ما ارتكبته النازية، حقائق كانت أم مبالغات، فرّ فلسطينيون من مناطق الغزو، وحمل كثير منهم مفاتيح بيوتهم التي استولت عليها فلول “الأشكيناز”، وكان أملهم أنهم سوف يعودون يوما إلى منازلهم وهم يستذكرون كلمات “فيروز”: سنرجع يوما إلى حينا.
وتحالف الاستعمار العالمي والأشقاء المزيفون فأصبح الحلم وهما والأمل سرابا والنضال بلاغيات جوفاء.
وبالأمس وأنا أتابع عودة النازحين إلى شمال غزة أدركت عظمة الإنجاز الذي تمكنت المقاومة الفلسطينية من تحقيقه بالسابع من أكتوبر 2023، ولو كره الكارهون.
كان الذين فروا من عمليات الانتقام الصهيوني الوحشيّ ولم تكن لديهم آلاف الدولارات التي تمكنهم من مغادرة المناطق التي استهدفها التدمير الصهيوني قد لجأوا إلى حيث يتحقق لهم الأمان النسبي في جنوب القطاع.
وبمجرد أن تم الاتفاق على وقف إطلاق النار اندفع عشرات بل مئات الآلاف عائدين إلى أحيائهم التي كانوا قد شردوا منها، برغم أنها، في وضعها الحالي، لن تكون أحسن تقبلا لهم من مناطق النزوح في الجنوب.
وكما قال الأستاذ فايز أبو شمالة، فإنه “رغم البرد القارص، ورغم عدم توفر الغذاء والماء في مكانٍ ناءٍ عن مقومات الحياة، في مكان مرتفع عن شاطئ بحر غزة، تغزوه الرياح الباردة، ولا توجد فيه دورة مياه للمرأة أو للفتاة لتقضي حاجتها، مكث عشرات آلاف الفلسطينيين على حافة الوجع ليلتين طويلتين، ينتظرون تطبيق اتفاقية الانسحاب الإسرائيلي من وسط قطاع غزة، ليعودوا إلى بقايا بيوتهم المدمرة، ويحتضنوا الأرض التي ضمت أفراحهم وأحلامهم”.
هكذا تابعنا عودة النازحين بإمكانيات بسيطة بل ومشيا على الأقدام يحملون صغارهم وبعض أمتعتهم إلى المناطق التي دمر الكيان الصهيوني كل أسباب الحياة فيها، وكانوا يتسابقون برغم الحفر والأخاديد التي افتعلها الكيان لعرقلة جموعهم، مما يذكّر بمزاعم أنذال العربان الذين كانوا يدعون بأن حماس تسيطر على شعب القطاع بقوة السلاح.
يعودون رافعي الرؤوس وهم ينشدون أهازيج العيد المعروفة، “الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد، مؤكدين بأنهم وعوا درس الأربعينيات، وكان هذا هو الإنجاز الأكبر لطوفان الأقصى، لأنه أعطى المعنى العملي لشعار العودة، ولعل روح نزار قباني كانت تطوف في الأجواء وهي تسجل أن الرجال حققوا أهداف كلماته التي تغنى بها عبد الوهاب: أصبح عندي الآن بندقية.
عودة مُدوّية، سجلتها كل وسائل الإعلام التي تعرف معنى النزاهة الإعلامية، وأكدت هزيمة الكيان الصهيوني الذي فشل في تحقيق أهداف كان يتغنى بها قادته، وفي الوقت نفسه، وكما قال عبد الباري عطوان، فإن “المُستوطنين الإسرائيليّين النّازحين من الجليل ومن مُستوطنات غلاف غزة لم يعودوا إلى مُستوطناتهم، لأنّ شُروط العودة لم يتحقّق أي منها”.
ورحت أقرأ سطورا تُرجِمت من مقال لكاتب إسرائيلي يُدعى “إيال حنانيا” تقول:
عندما تأملتُ الحرب في الأيام الأولى قدَّرت أن حماس ستركع وستستجدي وقف إطلاق النار.
فلقد حشدنا سبعة ألوية على رأسها أقوى لواءين واللذين لم يهزما أبدا في أي حرب مع العرب وهما رأس الحربة لواء “جفعاتي” ولواء “جولاني”، وجندنا سلاح الطيران بأكمله وهو من أقوى أسلحة الطيران في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكي، ووضعنا ثلاث أسراب خفيفة ومتوسطة من البحرية قبالة غزة، وحشدنا أفضل كتائب سلاح المدرعات على رأسها كتيبة “401” المكونة بأكملها من دبابات “ميركافا 4” فخر صناعة جيش الدفاع وتعد من أقوى دبابات العالم وأكثرها قوة نارية وتدريعاً.
وفوق كل ذلك، بعض الزعماء العرب يؤيدون العملية.
أما حماس فهي تعيش في حصار خانق فرض عليها منذ عشرين عاماً.
حماس في الأيام الأخيرة عاشت أزمة انقطاع الرواتب على الموظفين من قبل سلطة رام الله، إلى المصالحة مع “أبو مازن” الذي أراد تسخير موضوع الرواتب لإذلال حماس وتركيعها.
تأملت المستوى السياسي بهذا الوضع خرجت بتقديرات تفيد باستسلام حماس في حالة عملية عسكرية واسعة بل ونزع سلاحها أيضا بغطاء عربي وأممي.
بدأت المواجهة وخرج علينا ناطقو حماس على التلفاز بأسلوب من يقود قوة عظمى وجيشا جراراً عرمرماً.
وكان الرئيس الأمريكي بنفسه يرأس مجلس الحرب الإسرائيلي من تل أبيب، وفتح مخازن الجيش الأمريكي لتزود إسرائيل بجسور جوية وبحرية من اليوم الثاني للقتال من أجل اجتثاث حماس من على وجه الأرض.
تصورنا أن خطاب قادة حماس نوع من المكابرة السياسية وعدم تقدير قوة التحالف الذي لا يقف خلف إسرائيل فحسب بل يقف معها جنبا إلى جنب، وأن خطابات قادة حماس هي مجرد ممارسة اللعبة النفسية ليس أكثر، لكن صمودهم في القصف الجوي واستمرار إطلاق الصواريخ طيلة الأسابيع الأولى من الحرب بوتيرة عالية غيّر ميزان المعركة وموازين الردع تماما، وكان لزاما التدخل البري الكاسح المدعوم من الجو والبحر .
واجهَنا “مخربو حماس”!! بصلابة أربكت كل مستويات جيش الدفاع، ودمرت صورة الجيش وقوة الردع التي أردنا ترميمها.
مخربو حماس بعتاد متواضع مضحك مصنوع محلياً صمَدوا بشكل غريب يستحق الدراسة والتحليل في المدارس العسكرية الشرقية والغربية لأخذ العبر .
قمت بالبحث عن الجانب الأيديولوجي لهذه الحركة فوجدت أنهم يربون مقاتليهم منذ نعومة أظافرهم تربية دينية قبل التربية العسكرية الصارمة، ويلقنونهم إيديولوجية إسلامية جهادية بما يعرف بنظام المساجد.
إمام المسجد هو قائد الفرقة والمصلون خلفه هم الجنود على طريقة المسلمين قبل 14 قرناً .
مخرب حماس يعتقد أنه عندما يموت فانه يحيا ويذهب فورا إلى الجنة كما جاء في قرءانهم الذي حفظوه عن ظهر قلب، وأن أفضل طريق للموت هو الجهاد… تقاتل اليهود وأن تموت على أيديهم.
إنه يقتدي بالنبي محمد الذي حارب الكفار واليهود.
إنه يستسقي إيديولوجيته من تعبئة فكرية تقوم على دراسة تاريخ الإسلام والمعارك والبطولات والفتوحات الإسلامية.
وهم مستعدون لتفجير أنفسهم بدون تردد والقيام بأعمال خيالية حطمت كل النظريات العسكرية المعروفة بظروف قتال تكاد تكون مستحيلة.
إنهم يواجهون أرتال الدبابات والوحدات الخاصة والقوات الجوية بلا شيء.
لا شيء بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فتسليحهم بالنسبة لتسليح حتى أتفه المليشيات الأفريقية الجائعة هو لا شيء، ومع ذلك فقد استطاعوا التصدي والصمود وعدم الانكسار، قتال بصورة صلبة ومدهشة.
إنها أيديولوجيتهم المبنية على التجرد من الشهوات والسمو الروحي واحتقار العدو الكافر.
إنهم يقاتلون بعزة نفس واستعلاء نفسي معتبرين أنفسهم متفوقين دينياً وفكريا على عدو كافر.
أيديولوجيتهم تدفعم للعمل 24 ساعة في سبيل دينهم وتحقيق المستحيل لأنهم بهذا يعتقدون أنهم يخدمون دينهم وأمتهم وأنهم سيدخلون الجنة.
إنها أيديولوجية مدمرة ديناميكية لا تستكين ولا تهدأ يعرفون من خلالها هدفهم جيدا…. أيديولوجية تمسكوا بها في الضفة رغم حملة الاجتثاث التي تشنها عليهم إسرائيل بالتعاون مع الأمن الفلسطيني المدرب والممول أمريكيا وإسرائيلي،. فتمسكوا بأيديولوجية الجهاد رغم التنكيل والقمع ليعودوا الآن إلى واجهة العمل بالضفة الغربية بقوة وكأن شيئاً لم يكن.
عندما أرى مخربا يندفع صوب الميركافا 4 التي تشبه وحشا فولاذيا أسطوريا حاملا عبوته مفجرا نفسه فيها دون أدنى ذرة تردد أرتعب خوفا، كيف لهؤلاء لو امتلكوا أسلحة أقوى ولو اقتدى بهم شباب المسلمين في الدول العربية والإسلامية.
أعترف أن هذه الايدولوجيا هزمت “الميركافا” في هذه الجولة.
وإنها ستكون الخطر الأكبر على وجود دولة إسرائيل.
علينا أن نأخذ الدروس والعبر، وأن حربنا ضد حماس عليها أن تكون حرب اجتثات وحشية، إما نحن أو هم لأننا إن تهاونا اليوم فسنراهم خلال العقد القادم على أبواب تل أبيب يُكبرون .
عندها ستكون النهاية.
انتهى المقال الذي نشرتُه حرفيا كما قرأته في “الفيس بوك”، ولا أستبعد أن تكون هناك أصوات قد تدّعي أنه غير حقيقي، تماما كما قال “جرذ” ينتسب لفلسطين أن الاتفاق حول الأسرى لا يساوى الحبر الذي كتب به، لكنني رأيت أنه، بفرض أن ذلك الادعاء صحيح، فإن المضمون أكدته عشرات التصريحات الإسرائيلية، ومن بينها صرخات إعجاب صهيونية بما اقترحه “البلطجي” الأمريكي، والذي تكفل وزير الخارجية الأردني بردّ منسب عليه.
وللأمانة، كان أروع الردود بيان وزارة الخارجية المصرية، الذي ذكرني بأيام إسماعيل فهمي ومحمد إبراهيم كامل ومحمد رياض، لننسى، ولو للحظات، أيام “الغيط”.
وأذكر بكلمات الأستاذ فايز والتي تقول: “عودة نازحي الشمال إلى بيوتهم المدمرة بهذه اللهفة لم تكن الرد العملي على دعوة ترامب لتهجير أهل غزة إلى الأردن ومصر، بل هي الرد العملي على سياسة منظمة التحرير الفلسطينية التي وقفت موقف المتفرج من حرب الإبادة على أهل غزة، وفي عودة النازحين رسالة إلى قيادة المنظمة بأن تتدارك عجزها وقصورها وتخاذلها، وتقف مع شعبها، وأن تحترم إرادته، وأن تستمع إلى صوت المنطق والعقل، وأن تصير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بإرادة أهل فلسطين أنفسهم، لا بإرادة المنظمة العربية والاعتراف الإسرائيلي بها، وعلى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أن تثبت أنها الممثل الشرعي عملياً، من خلال عدم التفرد بالقرار، وعدم طرد ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني من دوائر منظمة التحرير، على قيادة المنظمة أن تحرص على ائتلاف الصف، ووحدة الهدف، وأن تتذكر أن مسماها منظمة تحرير فلسطين، وليس منظمة تقسيم فلسطين”.
ولعلي أضيف إلى ما قاله الأستاذ بأنني آمل ألا يكون القادة العرب والمسلمون أقل من مستوى الرئيس الكولومبي الذي رفض هرطقة البلطجي.
وأكتفي بالقول لأبناء غزة، التي كانت أكبر من العالم كله: شكرا، أنتم فعلا جبارون، وأنتم جديرون بالانتماء إلى مدينة هاشم جد الرسول، حتى ولو يدّع أحد منكم يوما أنه يجاهد بالسنن ويسير على هدْي الرسول.
ولا قرت أعين الجبناء.
آخر الكلام: التلفزة الفرنسية تتجشأ وتجتر، عبر العديد من قنواتها، برامج تكرر مبالغات الهولوكوست واسطوانات “أوشفتز” المشروخة وأكذوبة الـ6 ملايين، فاضحة بذلك العقدة الفرنسية التي تحاول التكفير عن تعاون شعب “بيتان” مع “الغستابو” ضد الفرنسيين من اليهود، وربما أيضا خوفا من تكرار أحداث 1968 المفبركة التي أسقطت “شارل دوغول”، والتي دبرها في باريس عملاء الموساد ومخابرات “اليانكي”.
*كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق