الجمعة , مارس 7 2025
الرئيسية / اراء / الالهة الصناعية التي ركعت في غـزّة!

الالهة الصناعية التي ركعت في غـزّة!

خالــد شــحام*
إليكم أيها السادة إعلانان تجاريان ، أحدهما في تجارة مع الله ، والآخر في تجارة مع الآلهة الصناعية الأمريكية ، متفرقان لا جامع بينهما إلا نهاية القول وما تفكرت به النوافذ من البصائر.
الأول ، إعلان ميتافيزيقي من أعالي التروبوسفير ، يقدمه أبو عبيدة مساء الخميس من نافذة الكرامة نحو عوالم العبيد ليعلن شـهادة القائد العظيم محمد الضيف ومساعده الأسطوري مروان عيسى وعددا آخر من قيادات المقاومة الفلسطينية التي سطرت طيلة شهور العذاب حكاية الايمان العربي القويم ، كان الإعلان في محراب غزة المعجزة ، مزيجا من رنين صوتٍ فـذٍ مع شيفرات التركيب الجيني للمقاومة الفلسطينية التي أضحت مدرسة القيادة الأولى في العالم ، لم أتمكن شخصيا إلا من الشعور بجناحين وبشيء ما يكبر في داخلي رغما عن الألم ، بعض من عطر الياسمين يملأ صدري بالفخر والعزة رغما عن الترانيم الملائكية الحزينة التي تجتاح خلفية الإعلان الفولاذي .
فلنترك هذا الإعلان العلوي مؤقتا لأذهب بكم نحو الأسفل في إعلان آخر يبدو منتميا لعالم المال والأعمال ، إعلان تبدو رائحته مثل رائحة الأسلاك الكهربائية المحترقة بالنسبة لترامب ، حيث تم في 20 من كانون الثاني الماضي الإعلان عن طرح محرك الذكاء الصناعي الصيني المسمى بالسَبّْر العميق Deep Seek ، وعقب هذا الطرح تهاوت أسهمُ عددٍ من شركات التقنيات الأمريكية وخاصة شركة (نيفيديا ) رائدة شركات الذكاء الصناعي ، مسجلةً تراجعا في أسهمها بمقدار 13% وخسائر تجاوزت النصف تريليون دولار ! جاء هذا الإطلاق عقب تعيين ترامب رئيسا لأمريكيا وكلمته الرئاسية التي أعلن فيها عن مشاريعه وتطلعاته والتركيز على الاستثمار الضخم في هذا المجال .
خلال أيام قليلة أثبت هذا المحرك قدرات متفوقة على نظيره الأمريكي المهيمن على ساحة محركات الذكاء الصناعي (CahtGPT) والذي يعد أيقونةً للعظمة العلمية الأمريكية دون أن يصرح أحد بذلك ، لقد أكدت مواقع التحليل والرصد التقني بأن الصين سجلت سبقا مناكفا على الولايات المتحدة بطريقة تنافسية ناعمة ، علما أن معركة الحصار التقني على الصين شُرِعت منذ أزمة الشرائح الآلكترونية التي أقرها ترامب في دورته الرئاسية السابقة وحظرها على الصين .
لمن لا يتابع مثل هذه المعركة التقنية أو لا يصل بوابة الفهم الدقيق لمعانيها نقول بأن هذه الحركة من الصين تمثل ردا على صعود ترامب وحزمة القوانين التي أعلن نواياه حولها والمتعلقة بالتشديد على الصين والمعركة الاقتصادية معها ، يغفل الكثيرون عن حقيقة هذه المعركة ويظنون أن الصراع مع الصين هو صراع تجاري أو اقتصادي بحت ولكنه في الحقيقة صراع حضاري واجِهتُه صراعٌ علمي -تكنولوجي قبل أي اعتبارآخر ، ان التسارع المتزايد للقدرات الصينية في منافسة الولايات المتحدة على هذين الصعيدين هو ما يقلق الولايات المتحدة وخاصة في موضوع الذكاء الصناعي الذي أصبح اليوم هو رمز الهيمنة على هذا العالم وما فيه بكل ما للكلمة من معنى .
من النقاط الأولية التي يجب استيعابها جيدا حول الاقتصاد الأمريكي أن هذا الاقتصاد يقوم بأكثر من ثلثيه على شركات التقنيات المتقدمة وهي شركات صناعة أشباه الموصلات والبرمجيات الذكية التي تتصدر قائمة الاقتصاد ، وبدون هذه الشركات يتحول الاقتصاد الامريكي إلى سوق تقليدي فاقد لأي عنصر ريادي أو تنافسي او متفوق ويفقد ميزة الاقتصاد سريع النمو ويطيح بسوق الأسهم الأمريكية بالكامل ، إن السر في تصدر هذه الشركات بالذات على باقي القطاعات يكمن في كونها تمتلك (حجر الفلاسفة ) المعاصر أو مفاتيح التطوير والقفز التحديثي للمستقبل لأي قطاعٍ عملي أو إنتاجي أيا كان ، في الماضي كان علماء الكيمياء يسعون لإختراع مادة خيالية اسمها حجر الفلاسفة وكانوا يؤمنون بان إضافة هذه المادة إلى أية مادة أخرى سيقود إلى تحويلها إلى الذهب ، وهذا هو ما يفعله الذكاء الصناعي بالضبط ، فمن خلال إضافته لأية مهنة أو قطاع إنتاجي لكم ان تتخيلوا ماذا ينتج من هذا التفاعل ، إن مصير القوة في عالم اليوم يقع بين يدي هذه الشركات والتي هي بالمناسبة تتحمل وزر الضحايا في غزة بشكل أو بآخر ولا يمكن تبرأة يديها من دماء غزة .
قد يبدو للكثيرين بأن ما أقدمت عليه شركة السبر العميق الصينية ( وهي للتذكير نائب متنكر عن الحكومة الصينية في قناع من الخصوصية ) يمثل شكلا تجاريا أو تنافسيا في عالم الأعمال ولكنه في الحقيقة ينطوي على ايماءات ورمزيات غاية في الدهاء والتهديد وإن بدا غير ذلك ، كيف ولماذا ؟
إن المنظومة الرأسمالية الغربية ووفقا لروح الجشع المقيمة فيها تتمتع بثلاث خصائص أساسية تهمنا في هذه المقالة ، وقد تَعرضَت هذه الجوانب لضربة محكمة من خلال طرح برنامج السبر العميق الصيني :
1- الخاصية الأولى هي خاصية تركيز الثروة في يد فئة قليلة ( وهو أساس مرض الفساد الذي يجتاح العالم مثل الفيروس ) ولهذا السبب فأي منتوج ابتكاري أو اختراع يتم انتاجه يجب أن يحظى بالضمان التام للامتصاص المطلق لعائداته ، هذه الفئة التي يتركز المال بين يديها تمثل اقطاب هذه الشركات الملعونة وهي التي جاءت بترامب ليمنح وجودهم الهيمنة المطلقة من خلال الاستثمار الكبير في الذكاء الصناعي ومتعلقاته ، وبما أن الشركة الصينية جاءت بهذا الانجاز القوي خارج أيديهم فقد حرمت الامتياز وتكدس الاحتكار الابتكاري الذي تمتعت به محركات الذكاء الصناعي الأمريكية مثل : (ChatGPT – Google SGE- Andi Search-Microsoft Copilot)
2- العداء المطلق للمنافسة الخارجية ، ومن هنا يمكننا ان نطرح عليكم حزورة رأسمالية : هل تعرفون من هو الشخص الاهم في شركات التقنية العالية الأمريكية ؟ انه ليس المخترع ولا المهندس ولا المدير ولا الممول ، إنه محامي حماية براءة الاختراع أو القسم القانوني في الشركة ، لأنه هو الذي يضمن حصر المنافع من المنتج في الدائرة الضيقة فقط ، تتمثل مهمة هؤلاء الذئاب في صناعة وابتكار كل اشكال العوائق والأشواك القانونية الممكنة لضمان القضاء على المنافسة وحصر الفائدة للشركة وتدمير الخصوم ومحاصرتهم ، وهنا جاء محرك السبر العميق الصيني كمناقض لهذه الخاصية وضربة في صميم روحها من خلال جعله مفتوح المصدر ، بمعنى أن كل متعلقات تركيبه وصيانته وتطويره معروضة و متاحة لأي إنسان ولا تحتاج أي نوع من الأذون المسبقة .
3- الامتناع التام عن فكرة تخفيض الكلف وإبقاء المنتوجات وكلف العمل في النطاق المرتفع غير المتاح للجميع ، بسبب النظرة الاستعلائية المقيمة في الروح الرأسمالية ، وهذه الفكرة بالذات في الاقتصاد الرأسمالي تمثل محور الفقر والانقسام الطبقي في العالم ، وهذه الفكرة تحديدا هي ما حطمه اطلاق برنامج السبر العميق الذي كسر الارقام المليارية لمنتج ذكاء صناعي أمريكي وحولها الى كلف متواضعة ومشاريع بحث قابلة للتنفيذ في الدول الفقيرة حيث بلغت كلفة انتاج محرك السبر العميق الصيني ما يقارب 5.6 مليون دولار قياسا إلى 6 مليارات دولار كلفة العمل في ChatGPT الأمريكي .
ان التقنيات المنخفضة الكلفة والمتاحة للجميع والمكشوفة المصادر هي عدو اساسي للرأسمالية ومنظومتها ، وهذه الوخزة الصينية الصغيرة وضعت ترويجات ترامب الانتخابية والرئاسية حول الاستثمار وخططه المتعلقة بالذكاء الصناعي أمام حقائق القوة الصينية الصاعدة ، لم يعد ذا اهمية ان يتم رصد المليارات أو حجب الرقاقات الالكترونية لاقامة هذه المشاريع او حصرها بالدول الغنية كما قال صاحب الشركة الصينية ، إن هذا يشبه اعلانا بالحرب الباردة على الاستثمار في مشروع ترامب حول الذكاء الصناعي الذي اعلنه في كلمته الرئاسية الاولى ، ولا تمثل برمجية السبر العميق إلا معطلا لآجزاء صغيرة من سوق الذكاء الصناعي الذي اعلن ترامب نواياه حوله وتزعمه لرعايته ، انه شيء يتحدى اليمين الامريكي المتصهين من جذوره مهما بدا شيئا بسيطا .
ان حرب غزة ليست بعيدة ابدا عن ابحاث الذكاء الصناعي وسياسات الولايات المتحدة وصراعها التكنولوجي للهيمنة ، لقد تم للتو اختبار أرقى وأحدث منتوجات الذكاء الصناعي العسكرية والتجسسية والتضليلية في حرب غزة ضمن ملفات مخفية تماما ، وما نتج عنها ليس إلا ســوءة وجه الولايات المتحدة وادانات هائلة لشركات التقنية العالية سوف تظهر تباعا .
إن قيمة الذكاء الصناعي الأمريكي الذي يحتل رقما من فئة عشرة خانات في الاقتصاد الأمريكي حاول بكل قواه العقلية والعلمية أن يعقد اتفاقا ما مع الشيطان لصناعة الآلهة الصناعية لتكون له الغلبة في الأرض مقابل كفره وإجرامه وإلحاده ، هؤلاء الباحثون عن الآلهة من دون الله عجزوا طيلة خمسة عشر شهرا من تصفية قيادات المقاومة الفلسطينية وغرقت أيديهم بالدم الفلسطيني العربي المسلم ، لا يعلم أحد ما كلفة الذكاء الصناعي الذي تم انفاقه للقبض على السنوار و الضيف وغيرهم ، لكنه خسر خسارة فادحة ، لقد خسروا خسرانا مبينا في إظهار تفوقهم على العقل الفطري البشري المؤمن المسلم لله وجنده ، فشلت كل هذه الشركات في مسرح مختبر غزة الذي عقدوه ليربوا العالم ويمنحوه عبرةً في قوة آلهتهم ولتحويل غزة إلى ساحة لتجاربهم المميتة اللانسانية وثبت بالدليل القاطع أن هذه الشركات المجرمة المحتالة ليست سوى أداة شيطانية بيد النظام العالمي تسوق وتروج للجريمة الدولية وتطوير إرهاب الدولة الأمريكية .
اصعد عاليا يا محمد الضيف على أجنحة الملائكة ودعوات الأمهات اللواتي حررت أبناؤهن فقد اخترت جوار الله بعد رحلةٍ من نضال طويل قدمت فيها كل ما لديك وأثبت بأنك أقوى من الذكاء الصناعي وأقوى من العربدة الأمريكية والاسرائيلية والخيانة العربية وأثبت بأن اللهك والهنا أقوى وأعظم من كل جبروتهم المصنوع ، اصعدوا أيها الشهداء على بحر من الحب في قلوب العباد والصابرين ، فرحمة الله ترافقكم وترحل معكم حيثما ذهبتم وحيثما حللتم في دار الآخرة والفوز ، لقد وضعكم التاريخ على جبينه شرفا وكرامة ، لقد أثبتم بأنكم أقوى وأذكى من تشات جي بي تي وأصحاب الأخدود الرقمي ، لقد تجاوزتم كل الخيانة الرقمية العربية وفزتم في الدنيا والآخرة وملئتم صدورنا حبــا وكرامة .
*كاتب فلسطيني

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

نظرة سريعة على قمة لم تكن جامعة!

د.محيي الدين عميمور* قبل أن تمر 24 ساعة على صدور بيان القمة العربية الطارئة الذي …