خالــد شــحام*
سادتي الأفاضل، كل الكلمات التي تقرؤون هنــا هي مجرد ذراتٍ من غبار، جمعتها لكم من كَنسِ الأرض بعدما أنهى الرئيس الأصفر خطابه الأخير ودمدم تراتيل الشر على حلبته البيضاء لأيام خلت، انفخوا عليها قليلا ليتطاير زبد البحر وستتبقى لكم غزة والمقاومة وبعض التاريخ، وأما ما يوقدون عليه في النار في البيت الأبيض فزبدٌ مثله، فأما الزبد فيذهب جفاءا، واما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض !
لا نعلم كم وإلى متى ستتحمل غزة كل هذه الأثقال، هل بقي من أحد أو شيءٍ لم يشارك في العدوان على غزة إما بمساندة الأحزاب أو بالسكوت عما يجري؟ ألم يشبع الأحزاب من دم خمسين ألفا وتحويل حياة 2 مليون فلسطيني إلى جحيم في أكبر مذبحةٍ عرفها التاريخ تُبَث على الهواء؟ من هو هذا المخلوق الذي يترأس الولايات المتحدة؟ هل هذه رئاسة أم شركة للمقاولات والتهريج السياسي؟ ما أنتم وماذا تريدون من إمبراطورية غزة؟
لم تعد الولايات المتحدة تتربع على عرش العالم في الذكاء الصناعي فحسب، بل تبين كذلك بأنها أصبحت تتصدر العالم في الغباء الطبيعي الرئاسي، ليس فقط في أحاديث الرئيس، بل في كل طاقمه وحتى السيدة الانيقة الناطقة بإسم البيت الابيض التي تطل على العالم بعد إصابتها بالعدوى الترامبية، لقد دشن الرئيس ترامب خلال أيام قليلة من صعوده مرحلةًً جديدة من العصر السياسي العالمي تحت عنوان عريض هو الحكم الجبري الترامبي، وحيثما يقفز هذا المصطلح ستتساقط المصطلحات القانونية والحقوقية التي صنعتها المؤسسات الدولية عبر العقود لتنظيم هذا العالم ووضع ضوابط له، ويحل بدلا من ذلك الحساء السياسي الترامبي حيث تصبح حقوق الإنسان مهزلة، والشعوب والبلاد سلعة، والعالم مجرد سيرك مترامي الحدود الكل يلعب فيه ويضحك حتى الموت .
عايشنا خلال الأسبوع الماضي بأكمله فصلا من حملات التحليل والتطبيل والتزمير والعرط الإعلامي وسوق المزايدات التهريجية التي تجتاح الوسط العربي ضد ترامب وتصريحاته الترامبولية ومع تقديري لكل الآراء والمحللين، إلا أن عين المهزلة تغمز لي بأننا أمام تمثيلية تهريجية على نطاق واسع يقودها المهرج الأصفر ويدفع بالممثلين فيها إلى تأدية أدوراهم بطريقة فجة وسطحية للغاية وهم يتقافزون أمامه على حصيرة الترامبولين الخاصة بالاستعراض الترامبي، خاصة مع اقتراب موسم التمثيليات الرمضانية الأكثر إضحاكا وسفاهة في زمان احتضار بلاد العرب .
جرت العادة أن التمثيليات المؤثرة تتطلب بضع مكونات، وبادىء ذي بدء لا بد من وجود سيناريو وحبكةٍ صادمةٍ تصعد إلى الذروة، وللوصول إلى الذورة والنشوة يتوجب وجود ممثلين ومن العيار الثقيل لإيقاع الوهم في النفوس، وفي جوف التمثيلية لا بد من وجود هدف ظاهري مخادع يساق إليه المتفرجون والكل يلعب لإثباته وتاكيده والإصرار على وجوده، أما الشيفرات السرية للتمثيلية التي تقع في نهاية التمثيل ففيها يكمن الهدف أو الرسالة السرية التي تكون هي محور التعمية والتضليل والغاية من التمثيل .
وتجنبا للإطالة فسوف أركز الحديث في بضع نقاط وإضاءة جملة من الحقائق الثابتة التي يجب الاستناد اليها لفهم مجريات الاحداث وسط هذا السُخام الترامبي :-
1-إن الحقيقة الجذرية الواحدة الأولى التي تقف عندها الأمور تقول بأن المقاومة في غزة انتصرت انتصارا غير مسبوق، الجيش العبري وقوات دلتا والمرتزقة من العرب والانجليز والفرنسيين الذين دخلوا غزة لممارسة هوايات رامبو خرجوا إما بساق واحدة أو بلا يدين او بالأكفان واحترقت الياتهم وسقطت كل انظمتهم التجسسية والعسكرية وفشلت فشلا مدويا، هذا النصر لا يمكن لشيء ان يمحوه ولا يمكن لعدد المدنيين الشهداء أو دمار المدينة أن يغطي عليه .
2- إن هذا الانتصار الذي حققته غزة بصمود المقاومة وصمود أهلها تحول إلى اللكمة الثانية المضافة فوق عملية طوفان الأقصى ليصبح هذا الحدث هو أكبر هزيمة مزدوجة يسجلها التاريخ للإمبريالية الأمريكية والصهيونية الحديثة العربية والغربية، ومن لم يدرك ذلك عليه أن يعيد القراءة من جديد وليأخذ وقته.
3-إن شعب غزة العزة صمد تحت النار والموت، وقَدَّم على الأقل خمسين الف شهيد ومائة الف جريح وخسر كل مدينته ولم ينحني أمام الجبروت الامريكي أو يرفع الرايةَ البيضاء، هذه النقطة الجوهرية يدركها المخطط الأمريكي والصهيوني ويعلمون تماما أنه لا توجد قوة في العالم قادرة على انتزاع الفلسطيني من أرضه وخاصة من أرض غزة التي أصبحت اليوم العقار الأغلى ثمنا في العالم في عزتها، ويكاد ترابها يصبح ذهبا ومنجما في الكرامة والإباء وتحول سكانها إلى قديسين، إنها المدينة الكثر طلبا في كل هذا العالم بعد حكاية طوفان الأقصى الخالدة.
4- إن صمود غزة بأهلها ومقاومتها تسبب في ضرب كامل معادلات الداخل الصهيوني وحوله إلى فرنٍ مستعر من الصراعات المبطنة وعبثية فكرة الدولة العبرية التي قد تنفجر بأية لحظة، وهذا الكلام لا يقل قوة عن النقطة الأولى، وهو جزء غير متوقع في كل خططهم عبر سلسلة التاريخ الماضي.
5- إن النموذج المقاوم الذي ظهر في غزة والذي تَبدَّى بوضوح نَهجُه وخطابه، يشكل أخطر تهديد على الإطلاق لمنظومة النظام العالمي الجديد وفلسفته الرأسمالية ومشتقاتها الليبرالية والإلحادية الايديولوجية، هذا النموذج الناضج أخلاقيا وقتاليا و الخطير جدا على كامل مستقبل هذا الحلف تم إنفاق المليارات وعقدت الحروب لمحوه وتحييده ووأده، إذا أفلت فلا راد له ولذلك يتوجب اخضاعه وتركيعه وتفكيكه، ولكنهم لا يعلمون بأنه قد أفلت من معقله، إن رمزية النصر المتبقية الوحيدة للأحزاب تتمثل في إزاحة المقاومة من السلطة في غزة وتقليم أظافرها العسكرية والسياسية والعقائدية لأن الشق الأخير هو أخطر ما يهددهم ويخشون من انتقال هذه العدوى لبقية العالم وليس المنطقة .
هذه الحقائق الخمس سادتي هي التي أفرزت التمثيلية الترامبية الحالية، وبناءا عليها دعونا نعيد تركيب قطع الليجو السياسية لنرى ماذا ينجم :
1-في داخل العقل السياسي والعسكري الصهيوني بشقيه الأمريكي والاسرائيلي كانت الحسابات المؤكدة تقول بأن هؤلاء في غزة استماتوا في سبيل الحصول على هدنة لالتقاط أنفاسهم والحصول على بعض المساعدات، وبالتالي فمهما تلقوا من الصفعات والالآعيب على بنود الهدنة فلن يفرطوا أبدا بها لأنهم الطرف الأضعف، لكن المقاومة الفلسطينية لعبت عكس التيار وتفوقت على نفسها مرة أخرى بتسديد هذه الحركة الصحيحة لتربك كل حسابات العدو، إن القرار الذي أعلنته المقاومة بتجميد تحرير الأسرى لا يكشف فقط عن مستوى رفيعٍ من العزة والكرامة التي أصبحت علامة حصرية بغزة واليمن، بل تكشف عن الإبداع في التمكن السياسي واللعب بذكاء في الأوراق الصحيحة والفهم الكامل للعدو، ومرة أخرى تثبت المقاومة أنها جديرة بقيادة الشعب الفلسطيني وتستحق هذه المكانة بجدارة وليس منظمة التحرير التي تخلت عن الشعب الفلسطيني والتي شكلتها المرجعية العربية كأداة لعب عبثية بمصير الشعب الفلسطيني .
2-من الواضح أنه كانت الخطة A وهي خطة الحصار والخنق والتجويع ومنع التهحير بهدف قتل اكبر عدد ممكن دون رحمة ولا هوادة وبقرار عربي رسمي بالكامل ومن يتبقى عقب ذلك يمكن ترحيله مثل العفش في مخيمات جاهزة ومجهزة في بلاد العروبة، عندما فشلت هذه الخطة تم التمديد والاستعانة بالخطط التابعة، نحن الان في الخطة الرابعة تقريبا والتي تم حبكها بعدما سقطت تنبؤات الفريق السياسي الصهيوني وفشلت توقعات الحكم العربي الشريك .
3-إن فكرة التهجير الترامبية لا مكان لها من الإعراب على كل الصعد حتى بعض الصهاينة ضحكوا عليها سخرية، وإذا تم تطبيقها فهي تعني نهاية الاستقلالية والسيادة الدولية وسقوط منظومات الأمم المتحدة وما بنيت عليه، وتعني كذلك فتح الاحتمالات على أشدها لصراعات عالمية مشابهة ربما ستحلل دم اوكرانيا لروسيا ودم تايوان للصين والحبل على الجرار لأي كان، وفي الوقت الذي تم فيه القاء كرة الالهاء هذه تتعرض الضفة الغربية للتفريغ السريع بصمت وسرعة كتعويض أساسي في الفشل في غزة .
4- مع كل أسفٍ وحسرة فإن السلوك الحقيقي الذي لا لبس فيه للأنظمة العربية بلا استثناء هو السلوك التاريخي الذي برز في حرب بيروت واغتصاب بغداد وهم يتفرجون عليها، وهو نفسه الدور في سائر الحروب العداونية على غزة وهم يتآمرون عليها طيلة سبعة عشر عاما، وهو نفس الدور الذي ساهموا فيه في الفتك بليبيا وسوريا والسودان، وهو نفسه السلوك الذي لا لبس فيه الذي برز في الفترة العصيبة من شهور القتل والحرق والابادة، وهو نفسه السلوك التآمري أو التعاوني او الصامت المريب وكل من يأمل او يتوقع شيئا من هذه الأنظمة فعليه أن يضحك حد القهقهة .
5- نحن أمام تمثيلية من نوعية المقياس الكبير بقيادة المايسترو المهرج الأصفر ومن دراما وبطولات الأنظمة العربية الظاهرة والخفية وكل حسب حجمه، ستفضي هذه التمثيلية الى عقد القمة التي اُدعِى أنها تهدف إلى (الرد على ترامب في قضية التهجير ) للخروج بحل (ابداعي ) لهذه الورطة التي ابتكرها الرجل الأصفر بتحريض من الشيطان الفاشل نتانياهو، وجريا على السيناريو المتدهور فإن التحضير يجري لمد اليد المشبوهة إلى غزة (لإدارتها والاشراف على اعمارها دون تهجير أهلها )، بتعبير آخر سيتم تسليم ملف غزة الى الجامعة العربية وتشكيل جبهة ثقل على المقاومة لتقنع عن طواعية بتحييد نفسها، أي بتعبير حقيقي البحث عن المقاومة عربيا بالمقياس الميكروي داخل غزة وتحييد كل عناصر قوتها الميدانية، اي بتعبير اخر رحبوا بالناتو العربي من جديد و الذي جاء اوانه والهدف هو إفشال مشروع المقاومة التي تشكل خطرا على الكيان بنفس القدر على الأنظمة العربية و منع اقامة حلم الدولة الفلسطينية حتى لو كانت من ورق .
6- هنالك غموض واسع يكتنف الخلفية المسترة التي يهرج في واجهتها المهرج الأصفر، غموض في التدابير المتعلقة بالمنطقة حول التطبيع السوري واللبناني وتصفية اليمن وتوجيه ضربة قاضية لإيران ومفاجآت أخرى مبيتة جيدا، ان سقوط غزة – لا قدر الله – يعني سقوط القلعة العربية الآخيرة المدافعة عن وجود ومستقبل هذه الأمة بكل الصيغ القومية والأسلامية واليسارية والعلمانية ومهما كان من يهمه أمر هذه الشعوب، إن هذا الخطا الكارثي سيضع كل شعوب العرب تحت القيد الأمريكي – الاسرائيلي بلا قيد ولا شرط .
إن رمزية الشخصية الترامبية التي تتفشى مثل فيروس عبر هذا العالم تعيد تذكيركم بالحلف الناهض الصاعد من سباته، الحلف الإنجلوساكسوني البروتستانتي، وهي لا تمثل إلا رمزية الغرب بحقيقته المفضوحة الوقحة بأطماعها وانعدام ضميرها وغياب بصيرتها عن آلام وعذاب الشعوب التي تقتلها بأسلحتها وعلومها النارية وتسحق كرامتها وتستولي على أرضها وثرواتها ومصيرها، هذه الرمزية الوضيعة التي تسيء للزمان والمكان تنسى أننا أصحاب الأرض وأصحاب حق الدماء التي سالت،تنسى بأننا مصنوعون من صلابة حجارة بلاد الشام ووارثون للكرامة مهما طال الزمان وشاربون من شتاء الكرمل، تنسى بأننا لا نسامح ولا نغفر ولا ننسى جراحنا ولا أطفالنا ولا نساءنا ولا رسالتنا مهما حرقوا وقتلوا، كل مشاريع ترامب وحلفه وممثليه ونائبيه ذاهبة إلى حفرة من حفر التاريخ ولن يغني عنه كيس التريليونات التي يحاول جمعها أو العقيدة المزيفة التي يقتلنا لأجلها، لن ينفعهم مشروع تهجير أو تطفيش أو تقتيل فكله قد سقط وابتلعته عصا السنوار و ما أتى به سحرهم، لقد انفلت النموذج ولم يعد باستطاعتك يا ترامب لا أنت ولا كل هذه الدنيا أن توقف طوفانه !
تحية ليمن البطولة ويمن العروبة ويمن الشعب الوفي وصاحب العهد والقيادة العربية الوحيدة التي فيها الحياة .
*كاتب فلسطيني
