د. لينا الطبال*
-عزيزي … بالتأكيد، يمكننا التحدث عن أحوال الشعوب… تخيل في ليلة من ليالي جنوب لبنان، بينما ستكون الطائرات الإسرائيلية محلقة في سمائنا، للبحث عن هدف جديد، واثقة بتفوقها الإلكتروني. في نفق تحت الأرض، سيجلس مقاتل جميل، بملامح هادئة، يراقب شاشة مليئة بالبيانات، سيبدأ في تنفيذ خطته. انه يحمل سلاحا ذكيا سيتسلل به إلى أنظمة العدو، وسيعيد توجيه طائراته وصواريخه نحو قواعدها، نحو تل أبيب، نحو النقاط التي انطلقت منها.
في ذلك الصباح، ستستيقظ المنطقة على واقع جديد. لا غارات على لبنان، لا صفارات إنذار في فلسطين، لا اوامر بضرب اليمن او دمشق او العراق. لقد انتهت الحرب قبل ان تبدأ… لقد سقطت القوة المتغطرسة… سقطت بعبقرية صنعت من الذكاء الاصطناعي…. واعلن طوفان التكنولوجيا سيطرته والتحرير في السابع من أكتوبر 2030.
-يا له من سيناريو مثير! هل رأيت؟ من أوكرانيا إلى غزة ولبنان وسوريا، كشف الاستخدام المتسارع للتكنولوجيا عن تحول في طبيعة الحروب. بعد ان اعتمدت أوكرانيا في بداية النزاع على المسيرات التركية، سرعان ما انتقلت إلى تصنيع نماذجها الخاصة، وتفوقت تكتيكيا وعملياتيا.
لكن هذا التطور لم يكن حكرا على أوكرانيا، بل أصبح قاعدة استراتيجية للفاعلين غير التقليديين في الشرق الأوسط. وتمكنت المقاومة من إنتاج مسيراتها واسلحتها الخاصة، وإعادة رسم قواعد الاشتباك ومواجهة التفوق التقني الاسرائيلي.
بموازات هذا التطور التكنولوجي، اصبحت الحروب الهجينة أكثر تعقيدا، وغدا التضليل الإعلامي سلاحا فتاكا لا يقل تأثيرا عن قوة النار والدمار… لقد تحول الفضاء الرقمي إلى ساحة معركة، وجري تزييف الحقائق وتحريفها.
إنها حرب بلا سيوف بلا بنادق، حرب لا تشبه الحروب التي قرأناها في الكتب. الحروب التكنولوجية اليوم بلا ضوابط، بلا قوانين، وكافة الاسلحة مباحة، وكل التكتيكات مشروعة… قد تأخذ صورة جماعات مسلحة وإرهابيون يتقمصون في شكل الدولة، كما في سوريا… بينما تغض الدول الطامعة أبصارها، بل وتقدم التبريكات والتهاني لهذا المسخ الحاكم.
وفي منزلك الآمن، ستطل نوافذه على مشاهد قد تظن لوهلة أنك في قندهار أو في تورا بورا، سترى وجوها مخفية خلف اللحى والسلاح، وستسود قبضة الإرهاب، ويتم فرض الأيديولوجيات بالقوة… ستتحول الساحات والاسواق الى أماكن يسودها الرعب، وسيتراجع الزمن نفسه إلى عصور الظلام.
من أبرز سمات هذه الحرب أنها تحسم المعركة بضربة واحدة قاضية، تُسقط الخصم قبل أن يدرك ما أصابه…
قد تتخذ اشكالا عدة من او حرب الابادة على الهوية، وحرب ضد الاقليات وانعدام الرحمة. في حمص، في طرطوس، في الساحل السوري وفي كافة المناطق، هناك اعدامات ترتكب خارج نطاق القانون. في غزة لم تعد الإبادة بواسطة السلاح بل صارت حصارا، تجويعا، وترويعا… وتطهيرا عرقيا…
قد يصلك من لبنان أصوات مقززة… خطاب سياديّ مفرغ من السيادة، يطغى على مقاومة الاحتلال. يواجهونك بجدلية أخرى “انسحاب المتظاهرين من طريق المطار”. سيوجهون اسلحتهم نحوك عندما تريد مقاومة العدو. هم لم يستنكروا اجتياح إسرائيل لكافة المناطق في لبنان، والقصف والتدمير العشوائي، وتجريف الطرقات، وتحليق المسيرات الاسرائيلية فوق بيروت… لكن عندما شرعت طائرة مدنية إيرانية الهبوط في المطار دوى صراخهم، وارتفعت أصوات الاستنكار، وكأن الخطيئة الكبرى قد تجسدت…
-هل توافقني الرأي؟ او اننا سنختلف في ذلك أيضا؟؟ حسنا اذا… هل لديك وقت لمتابعة القراءة؟
يأتي جيل Z المولود بين 1997 – 2012 ، والذي نشأ وسط ثورة رقمية جعلته يحوّل كل اداة رقمية إلى سلاح مقاومة… وفعلا اثبتت المقاومة في لبنان، والعراق واليمن، وغزة، قدرتها على إنتاج حلول منخفضة التكلفة وذات فاعلية عالية… حقا ان الذكاء والإبداع يتفوقان على التكلفة والتعقيد، من تطوير الطائرات المسيّرة إلى الحرب السيبرانية، وحتى تكتيكات إدارة المعركة بمرونة ودقة… ثم هزيمة اسطورة الميركافا امام معادلة “المسافة صفر”.
قاد جيل Z معركة الرواية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ونشر صور القصف الاسرائيلي بالمباشر، وخلق تضامنا عاطفيا دوليا مع قضية شعوبنا… وساهمت الهاشتاجات مثل #FreePalestine و #GazaUnderAttack و #جنوب_لبنان و #سوريا_حرة في تعبئة ملايين الأشخاص حول العالم، مما خلق ضغطا دوليا غير مسبوق كسر به احتكارات الإعلام التقليدي… هل ادركت؟ لن نكون وحدنا في ساحة المقاومة الإلكترونية، بل في قلب معركة لا حدود لها.
جيل ألفا (Generation Alpha) ولد بين 2010 و2025، وهو الجيل الذي يلي جيل Z . هذا يعني ان اكبر افراد هذا الجيل يبلغون الآن حوالي 14 عاما بينما لا يزال الباقون في مرحلة الطفولة أو لم يولدوا بعد. سيعتمد هذا الجيل على أنظمة مقاومة غير مركزية، مما يعني أن الاحتلال لن يكون قادرا على استهداف قياداتنا بطريقة مباشرة وواضحة، لأن القرارات ستكون موزعة وتعمل بالتشفير عبر أنظمة ذكية تدار بواسطة نخبة قيادية غير مكشوفة، موزعة على مجتمعات مقاومة رقمية.
جيل ألفا لن يواجه الاحتلال بالوسائل التقليدية وحدها، بل بالعقل، والابتكار والتكنولوجيا… وإذا استطاع تحييد التفوق التكنولوجي الإسرائيلي، فإن الاحتلال سيفقد أحد أقوى أدواته. سيغدو كيانا مكشوفا، يواجه مقاومة قادرة على شل طائراته، وتعطيل دفاعاته، وفضح سردياته أمام العالم.
في هذه المعركة سيكون لجيل ألفا اليد العليا… إن تحقق ذلك، لن يكون العبور نحو الجليل بعيد المنال…
على عكس الحركات التي تتعامل مع المقاومة كمسار جامد أو كحتمية تاريخية… ألم يؤكد “كورنيليوس كاستورياديس” أن المقاومة لا تكون فعالة إلا إذا كانت إبداعية ومتجددة، لأنها تنبع من طبيعة التحديات التي يواجهها كل مجتمع في سياقه التاريخي؟ فكيف يمكن لمقاومة ثابتة أن تصمد أمام أنظمة القمع المتغيرة؟
هذا يعني أن المقاومة اذا اكتفت باستراتيجيات موروثة دون تطويرها قد تفقد فعاليتها، بل وقد تتحول إلى إعادة إنتاج لهيمنة تكنولوجية مضادة بدل أن تكون أداة تحرر… في عالم التكنولوجيا هذا على المقاومة ان تتحول الى ابتكار وابداع، يعيد تشكيل أدوات المواجهة وفقا للسياقات المتغيرة، عندها فقط ستتحول التكنولوجيا من أداة بيد القوى المسيطرة إلى سلاح في يد شعوب المقاومة الساعية للتحرر.
-عزيزي … عن هذه الشعوب تريدنا ان نتحدث؟ وستجيبني حين اسألك عن سوريا ولن اجادلك هذه المرة… سأدعك تسترسل في الحديث كما تحب دائما واعرف انك ستقول لي:
ستعود سوريا، وسيعود علمها يرفرف عاليا… هذا العلم الذي قاتل تحت رايته الأحرار، وسقط الشهداء، هذا العلم هو هويتنا وتاريخنا… سيعود العلم بنجومه وبألوانه الأسود والأبيض والاحمر. هو رمز لعهد حمل معه حلم العروبة، ووحدة المصير. تحت رايته اجتمع القادة، جمال عبد الناصر وشكري القوتلي، وتوحدت سوريا ومصر وكافة الأوطان…
-وستتابع بكل فخر: لقد ادرك العدو أن سوريا هي قلب العروبة النابض، وأن زوالها يعني زوال الامن والاستقرار في المنطقة.
بعد سنوات من الآن، سيملك مقاتلونا المفتاح لتغيير المعادلة، ستتم خرق داتا العدو، وستعاد صياغة المواجهة بوسائل لم تكن ممكنة من قبل. على الأرض انتصرنا، وفي الفضاء الإلكتروني والاستراتيجي سنحسمها أيضا.
التكنولوجيا تتقدم، لكنها لا تفتح العالم، فهذه ليست مهمتها أبدا، كما ان الرقمنة قد تؤثر بالسياسة لكن لا تصنعها… هذه معركة لم تنته، وهذه حرب لا تزال في بداياتها، ادواتها فقط تتغير. الأرض التي صلبت مرارا، ستعرف كيف تنهض من جديد، ستخلق سبلا جديدة للمقاومة، وستعيد كتابة معادلات النصر بذكاء، بإبداع، وبإرادة المقاومة.
انتظرونا قريبا، فمقاتلونا لم يولدوا جميعهم بعد، والأطفال الذين سيحملون الراية قادمون. طوفان جديد منا يقترب… وهذه المرة، لا أحد سيتمكن من إيقافه.
*أستاذة جامعية، باحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باريس
