د. طالب أبو شرار*
لم تكن التعريفات الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب على 57 بلدا واحدةً من شطحاته المتعددة أو وليدةَ ساعتها. كان ذلك في الثاني من هذا الشهر، نيسان لهذا العام ثم تلاه بعد أسبوعٍ واحد تعليقُ تلك الرسوم لمدة تسعين يوما مع رفعها الى 125% على الصين وحدها. جاء فرض الرسوم الجمركية في تناقضٍ صريح مع سياسة العولمة التي تبنتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية لكنها أصبحت في الفترة الأخيرة موضوعَ مناقشةٍ ومراجعةٍ ونقدٍ من قبل العديد من رواد صناعة الاقتصاد في الولايات المتحدة. للتنويه، تبنت الولايات المتحدة بعيد تلك الحرب مشروعَ تأسيس صندوق النقد الدولي (International Monetary Fund) بهدف مساعدة اقتصادات الدول التي تسير في فلكها والتي انهكتها الحرب. ومن هذا المنطلق تم تأسيسُ المفوضية (لجنة الأمم المتحدة) الاقتصادية لغرب آسيا في العام 1973 ثم عُدِل اسمها في العام 1985 ليصبح المفوضية الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسياESCWA. على صعيد الولايات المتحدة نفسها فقد وقعت اتفاقيات تجارة حرة مع العديد من الدول. على سبيل المثال، جرى اتفاق ثلاثي بين كندا والمكسيك والولايات المتحدة في العام 1992 أطلق عليه اتفاقية شمال أمريكا للتجارة الحرة (NAFTA) يقضي بتخفيض الرسوم الجمركية ومراجعة التشريعات المتعلقة بالتجارة بين تلك البلدان في غضون 15 سنة. على صعيد عربي، وقع الأردن اتفاقية لإقامة منطقة تجارة حرة مع الولايات المتحدة الامريكية في العام 2001. كانت كل تلك الاتفاقيات بدفعٍ وتحفيزٍ من الولايات المتحدة كما واكب هذا التوجه تأسيس العديد من الهيئات والمنظمات العاملة في مجال تعزيز التجارة الحرةGeneral Agreement on Tariffs and Trade (GATT) في العام 1994 كما عقدت الولايات المتحدة أربعة عشر اتفاقية تجارة حرة (FTA) مع عشرين بلدا. ثم، وفي العام 1995، شنت الولايات المتحدة حملةً كبرى من أجل تحرير التجارة العالمية فأسست وتزعمت منظمة التجارة الحرة (Free Trade Organization) لكنها في الرابع من آذار من هذه السنة أبلغت تلك المنظمة بأنها ستعلق مساهماتها المخطط لها إلى أجل غير مسمى وأوقفت مساهمتها في ميزانية المنظمة عن العام 2024 والبالغة نحو 11% أو 232 مليون دولار وهي رسوم تُحسب بناءً على حصتها من التجارة العالمية.
بناء على ما سبق، يأتي إعلان الرئيس الأمريكي بفرض الرسوم الجمركية مفاجئا ومتعاكسا وصادما للحلفاء قبل الخصوم ثم وبعد الانهيارات الحادة في أسواق البورصة عبر العالم بما في ذلك الولايات المتحدة وبعد أسبوع واحد من ذلك الإعلان يتراجع الرئيس الأمريكي في خطوة مربكة فيعلن تعليق تلك الرسوم كما ورد أعلاه. تشبه تلك القرارات الارتجالية أساليب قادة بعض دول العالم الثالث الذين انتهوا الى سدة الحكم عبر انقلابات عسكرية ثم انفردوا بالسلطة بلا منازع وأحاطوا أنفسهم بثلة من المتكسِبين الذين يصفقون لكل شاردة أو واردة تصدر عن رئيسهم الملهم. المثير في هذا الصدد هو تجلي فردية عملية صناعة القرار في الولايات المتحدة بعيدا عن كل القنوات الدستورية والمداولات العقلانية التي كانت سائدة الى وقت قريب. الولايات المتحدة بلدٌ يعج بالكفاءات المرموقة التي ما كانت لتصنع قرارا بمثل هذا التهور والخطورة على أمريكا نفسها قبل حلفائها الحميمين مثل بريطانيا وأستراليا وكندا وعلى الاقتصاد والاستقرار العالمي. من يراقب دائرة إدارة ترمب يكتشف بسهولة ضعف رجالاته البيِن والذين ينصاعون الى رغباته في كل صغيرة وكبيرة تماما كما لو كانت صادرة عن أحد أباطرة روما أيام مجدها الغابر. كنت قد نوهت في مقالة سابقة الى ظاهرة تدني مستوى الكفاءة القيادية للعديد من رؤساء الولايات المتحدة في الفترة الماضية وهو أمر يشير بوضوح الى شيخوخة تلك البلاد. من يعرف حجم الزخم والابداع العلمي والفكري في تلك البلاد لا بد وأن يصاب بالذهول لما يراه هذه الأيام من نوعية رجالات الصف الأول في الإدارة الأمريكية. أذكر جيدا كيف كانت الولايات المتحدة قبل خمسين عاما قِبلةَ الدارسين وأمنية الخريجين من برامج الدكتوراة ومن شتى الجنسيات والذين كانوا يتطلعون الى فرصة عمل أكاديمية في إحدى جامعاتها أو مراكزها البحثية المرموقة. لقد صنع أولئك “الأجانب” مجد أمريكا العلمي والتكنولوجي ومكنوها من التفوق على كل منافسيها الدوليين. عندما أقارن الأمس باليوم أكتشف مستوى التراجع الكبير في جاذبية الجامعات الأمريكية للباحثين العلميين بل وفي زيادة أعداد الأساتذة الأمريكيين أنفسهم الذين يتحولون بأنظارهم الى فرصة عمل في جامعة محترمة خارج البلاد. بلا شك، سينعكس ذلك سلبا بيِناً على وتيرة التقدم العلمي والتكنولوجي الأمريكي في مقبل الأيام وسيترجم الى ازدهار واضح، وقد تم ذلك بالفعل، في بلدان كانت خلف الولايات المتحدة قبل حين وأهمها الصين والهند ودول أسيوية أخرى.
هنالك فارق كبير بين قادة يضيفون مجداً لبلادهم وآخرين يستنزفون رصيد بلادهم من المجد خاصةً في فترة تتزاحم فيها الأقدام نحو القمة. أتساءل شخصيا كيف انتهت مناصب صنع القرار في بلد علماني بحكم الدستور الى حفنة من المهوسين دينياً والمسكونين بالخرافات الأسطورية المستنسخة من (العهد القديم) وهو التوراة اليهودية التي لا تشكل نصوصها جزءا من الإيمان المسيحي الكاثوليكي ناهيك عن الأرثوذكسي. لقد نجح البروتستانت (المجددين) في ضم الكتاب اليهودي الى الإنجيل وأطلقوا على الإثنين مجتمعين عبارة الكتاب المقدس. بمعنى آخر، أصبحت التوراة جزءا من الإيمان المسيحي الذي أتى به السيد المسيح رافضا للكثير من المعتقدات الواردة في الكتاب اليهودي. للأسف، تمكنت الصهيونية من اختراق الدين المسيحي في صورة “الصهيونية المسيحية” التي تدعم بشكل مطلق الكيان الصهيوني وكلَ زيفه الأسطوري بامتلاك فلسطين وطرد شعبها خارج وطنه. لقد أسس أولئك المسيحيون الصهاينة منظمة “مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل” وهي منظمة صهيونية مسيحية كبيرة يزيد أتباعها عن 10 ملايين ناهيك عن أعداد إضافية من الإنجيليين الذين يتبنون المعتقدات الصهيونية المسيحية والذين تصل نسبتهم في الولايات المتحدة نحو 14% من مجموع السكان، كلهم منحازون بالمعتقد الى صف ترامب. المفارقة هنا أن لا أحد يعترض على الكيفية التي أصبح بها المعتقد الديني الحافز الأول في عملية صنع القرار. قبل نحو خمسة وأربعين عاما، اقترح الرئيس الجمهوري رونالد ريجان تخصيص بضعة دقائق صمت في طوابير الصباح لطلبة المدارس أطلق عليها كلمة “صلاة”. لم يقترح ريجان صلاة دينية محددة بل ترك الأمر للطلاب كي يتمتم كل واحد منهم بما يتفق ومعتقده الديني. لكن لاقى ذلك الاقتراح رفضا قاطعا من الكونجرس الأمريكي الذي اعتبره تدخلا دينيا سافرا في الحياة العامة. اليوم، يتباهى رموزٌ من رجالات ترمب بمعتقدهم الديني ويكرسون ذلك المعتقد لتوجيه سياسة بلادهم العدائية ضد الفلسطينيين وبقية العرب والمسلمين عبر العالم.
ولأنهم لا يعرفون كيف يتحقق الازدهار والتفوق الوطني، فإنهم يعبثون بركائز بلدهم العلمية والاقتصادية ويدفعونه نحو الهاوية عبر العديد من الممارسات العبثية التي استعدت كل حلفاء الولايات المتحدة الأقربين والتقليديين. لقد أصبحت تلك البلاد معزولةً نسبيا عن بقية العالم الذي، ربما، يرغب الآن في زوال نفوذها بعد أن استفزت وأرهقت الجميع في تبني صرعات ٍشاذةٍ تاريخياً وانسانياً ثم انقلبت عليها لاحقا مثل تشريع إباحة المثلية (الشذوذ الجنسي) ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسية وحاملي صفات الجنسين. في إدارة بايدن، كان هناك مثليون مثل جان بيير وهي مثلية سوداء تولت منصب سكرتير إعلامي و بيت بوتيجيج الذي عمل وزيرا للنقل وهو متزوج من رجل وظهر متأبطاً ذراعه في مناسبات عديدة ونيد برايس وهو المتحدث الرسمي في وزارة الخارجية وقد عمل سابقا في وكالة المخابرات المركزية ومجلس الأمن القومي. لقد ظهروا جميعا وعلانيةً دون مواربة بل وبزهوٍ واضح. ثم جاء ترمب الذي حرَم كل تلك الهرطقات فأصبح المواطن الأمريكي في حيرة من أمره وكأنه انتقل في عيشه الى بلد آخر. مثل هذا التأرجح الرسمي الحاد في النظرة الى القيم الاجتماعية هو دليل إضافي على عدم استقرار الولايات المتحدة في أخلاقياتها ومثلها العليا مما يعزز الخوف الاجتماعي من المستقبل ويخلق مناخا طاردا للعديد من الأسر المتزنة في قيمها ومثلها العليا.
عند هذه المرحلة، لا بد من الإشارة الى موقف الإدارة الأمريكية مما يجري في قطاع غزة من قتل همجي وممنهج لكل أشكال الحياة الإنسانية يقوم به الكيان الصهيوني. ولأن الإدارات الأمريكية السابقة واللاحقة تدعم ذلك الكيان بكل السبل العسكرية والاقتصادية والإعلامية فقد وجدت نفسها مضطرة للتناقض مع الدستور الأمريكي في قمعها الوحشي للأصوات المعارضة للممارسات الصهيونية خاصة النصوص التي تكفل حرية التعبير وحرية الرأي. وبسبب التنامي في المواقف المعارضة للممارسات الإسرائيلية ليس فقط في صفوف طلبة الجامعات بل وفي قطاعات مختلفة من المجتمع الأمريكي فقد أصبح هناك صدام مباشر بين الإدارة والجمهور وأصبحت هناك ممارسات بوليسية ضد كل الأصوات المعارضة للإجرام الصهيوني بما في ذلك إلغاء الإقامات الدائمة للمهاجرين وإغلاق أبواب الولايات المتحدة في وجه المعارضين للصهيونية من ذوي الإقامات الدائمة إن كانوا خارج البلاد وعادوا اليها. تهدد تلك السياسات بانشقاقات طولية وعرضية وربما رأسية داخل المجتمع الأمريكي خاصة إذا استمرت الإبادة الصهيونية على حالها لفترة إضافية. وبما أن تراجع الإدارة الراهنة عن دعم الحركة الصهيونية يعني تراجعها عن معتقداتها الدينية وعن أحلامها الأسطورية ببناء الهيكل في القدس وبعودة المسيح فلا بد وأن يكون ذلك التراجع دمويا ومستنزفا لوحدة البلاد ربما في صراع أعنف من صراع الحرب الأهلية 1861-1865. آنذاك، تفجرت الحرب الأهلية لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى ولاعتبارات إنسانية تتعلق بتحريم الرقيق وكانت ذات طابع جغرافي، الشمال ضد الجنوب. لكن الصراع المحتمل هذه الأيام سيكون في قلب المجتمع الأمريكي ولأسباب أعمق من تلك التي حفزت صراع الماضي. إنه صراع مرتبط بالبنية الإنسانية الفكرية والأخلاقية للمجتمع وسيكون، بالتالي، مدمرا لوحدة البلاد. للمفارقة، هو صراع شبيه بما ينتظر الكيان الصهيوني في مقبل الأيام بين ذات الفريقين لكن في مكانين مختلفين.
لقد انحاز البعض من البروتستانت كلية الى الي قول السيد المسيح “ما جئت لألقي سلاما بل سيفا” في إشارة واضحة للتجاوزات اليهودية. هد رجال مثل بيت هجسيث (Peter Brian Hgseth) وزيرا للدفاع وهو يحمل درجة بكالوريوس في الآداب ويميني متطرف في الفكر واجتاز موافقة مجلس الشيوخ الأمريكي بفارق صوت واحد مما يعني أن الموافقة على ترشيحه احتكمت للحزبية الجمهورية قبل أي اعتبار مهني أو شخصا يحتل أحد أهم المناصب الحكومية مثل (Marco Antonio Rubio) ماركو روبيو وهو وزير الخارجية وينتمي الى نفس المجموعة الدينية المتطرفة وعمره خمسة وأربعون عاما بل نائب الرئيس ج.د. فانس (James David Vance) وهو حاصل على بكالوريوس قانون وعمره أربعون عاما فقط ومن نفس اللون الديني.
*كاتب ومفكر عربي
