الأربعاء , أبريل 23 2025
الرئيسية / اراء / أطفالنا يريدون أن يكبروا… فقط!

أطفالنا يريدون أن يكبروا… فقط!

د. لينا الطبال*
كان يمكن أن يكونوا رسامين. أو كتاب روايات ادبية، أطباء، أو باعة ورد. سائقي سيارات أجرة، عمال بناء، لاعبي كرة قدم، أو حتى لصوص صغار في ازقة البلاد وحاراتها. لكنهم ولدوا في الزمن الخطأ، في الأماكن الخطأ، تلك التي يسميها المجتمع الدولي “نقاط النزاع”. كم يحب هذا المجتمع أن يجمل مآسينا بأسماء ناعمة:
نزاع.
صراع.
اشتباك.
عندما يقتل طفل يهودي، تغرق الإنسانية في نوبة بكاء، تضئ الأبراج، تنكس اعلام الدول، وتعقد الحكومات جلسات طارئة، تقوم الدنيا ولا تقعد.
ad
وعندما يتم قتل مائة طفل فلسطيني، لا احد يرى.
يعلن متحدث رسمي ما:” نأسف لسقوط ضحايا مدنيين. لكننا نعتقد أنهم كانوا في محيط نشاط إرهابي” او قد يصرح “لقد تم استخدامهم كدروع بشرية.”
وهكذا، تصبح المنطقة الفلسطينية كلها “نشاط إرهابي”، وتتحول الطفولة إلى هدف عسكري مشروع… تبا.
كان يمكن لهذا المقال ان ينتهي هنا. بشتيمة. او اختم بعبارة فظة، أن أضع نقطة، وامضي.
لكنني و يا لسوء حظكم ساتابع، قد لا يسركم ما ستقرأونه فهذا المقال ليس مخصص لذوي القلوب الضعيفة.
لذا دعوني أخبركم عن “أرنا”.
“ارنا مير خميس” هي امرأة يهودية، من حيفا. لا تصلي، ولا ترفع الشعارات. ذات يوم، قررت أن تعلم الأطفال في مخيم جنين شيء آخر غير الحروب، ان تطلق فيهم مشاعر أخرى غير الخوف والرعب.
انشات مسرح. نعم، مسرح… واطلقت عليه اسم “مسرح الحرية”، تخيلوا فقط: في مخيم جنين، بعد الانتفاضة الأولى وقبل الثانية، وسط البؤس والقهر والاحتلال، تفتح الستارة.
كان العرض يقدم هناك رغم كل نفي للحياة. كانوا أطفالا يضحكون، يمرحون، يتلعثمون بالنصوص، يتشاجرون على من سيلعب دور الملك، ومن سيسرق المشهد الأخير… أطفال أرنا، كانوا مثل أي أطفال في العالم. وهذا كان خطأهم الأول.
لأن الطفل الفلسطيني، لا يفترض به أن يكون طفلا. الطفل الفلسطيني فقط يقصف كـ “يوسف أبو موسى”، أو يعتقل كـ”احمد مناصرة”، او يستشهد كـ”هند رجب”.
“أرنا” راهنت على اطفالها. على محيط يمكن أن ينتج مستقبل وسلام. لكن “أرنا” ماتت، ثم مات الأطفال الذين لعبوا على خشبة مسرحها… واحدا تلو الآخر. احد الناجين القلائل التحق بالمقاومة، اسمه “زكريا الزبيدي” من ممثل طفل، إلى احد قادة كتائب شهداء الأقصى الى ملاحق من قبل الاحتلال ثم معتقل. فيلم “أولاد أرنا” وثق كل هذا. لكن لا أحد شاهده من دعاة السلام. حتى “جوليانو خميس” ابن “ارنا” ومخرج الفيلم مات مقتولا.
اكتب لكم عن “زكريا الزبيدي”، الطفل الذي عشق المسرح. لكن الاحتلال لم يترك له أي مجال لتحقيق حلمه.
زكريا لم يتمكن من وداع أحد من افراد عائلته، كان في المعتقل عندما استشهد والده، وأمه دفنها الصليب الأحمر، دون أن يراها أو يحملها أو يقرأ عليها سورة واحدة. أخوه طه تم مواراة جثمانه في التراب ولم يتمكن من رؤيته ووداعه. ثم اخوه داوود، ثم… ثم… قائمة طويلة من الاسماء بلا مراسم، بلا عزاء، بلا لحظة واحدة للانكسار.
العزاء؟، يقول زكريا: “لا أعرفه. لم أجربه. لم يسمح لي بممارسته.” زكريا الزبيدي. نعم، هو أحد أبطال عملية الهروب الكبرى وحفر نفق “جلبوع” عام 2021، هو أحد “الأبطال الستة” التي الذي أرعبت منظومة الاحتلال.
ثم هناك “محمد” الشاب ابن زكريا الذي اغتاله الاحتلال وهو لم يكمل الـ 21 عاما… زكريا كان داخل الزنزانة لم يسمح له الاحتلال حتى بلحظة الوداع. لم يشارك في دفن ابنه محمد أيضا. محمد مات، لم يلقِ عليه نظرة أخيرة، لم يمشِ في جنازته، لم يشترِ له وردة أخيرة، لم يتحضنه في الثلاجة، لم يُغلق جفنه، لم يقف أمام قبره، لم يُسمح له أن يكون والدا لحظة وفاة ولده.
تم الإفراج عن زكريا منذ شهرين، في صفقة التبادل الأخيرة. قضى من عمره في سجون الاحتلال ما يزيد عن سنوات الحرية. خرج… كما يخرج الأبطال من الحكايات: مبتسم، منتصر، وفي عينيه شيء من الطفولة.
لا أعرف لماذا أكتب عنك يا زكريا… ربما لأن وجهك الجميل يا زكريا، وجهك المنمش بالبارود، ذلك الذي صاغته النار ولم تطفئه. عن ضحكتك التي لم تستسلم، رغم أن العالم كله كان يدفعك إلى الانكسار. عن صوتك حين تتحدث… كأن قلبك لم يكسر ألف مرة، وكأن فيك طفلا ما زال يعرف كيف يقول الحقيقة دون خوف.
كان يمكن أن تكون ممثلا. فصرت بطلنا. صار اسمك: زكريا الزبيدي. وصار لقبك الذي يخشاه العدو: التنّين.
نحن جيل زكريا الزبيدي، ما زلنا أطفال ولم نكبر كما ينبغي، جيل لم يلعب بما يكفي ليمل اللعب، ولم يحزن بما يكفي ليشفى، جيل ما زال يعتقد أن أبناءه أكبر منه، وأنهم اكثر اتزانا منه… نحن جيل زكريا، الذي درس القانون وعلم السياسة من زنازين العدو.
جيل الكتائب والرصاصات الأولى، وصور الشهداء السعداء المعلقة فوق اسرتنا.
انما …
هل تختلف جنين عن غزة عن صيدا؟ عن بيروت؟ هل تختلف درعا عن نابلس؟ عن قري الساحل ومدنه؟ عن الشام عن طرابلس عن القدس اواللد او حيفا؟
الطفل، في النهاية، لا يفرق بين قذيفة إسرائيلية أو هجوم طائفي او أي سلاح يختار ضحاياه بناء على بطاقة الهوية. كلها تأتي بنفس الصوت. بنفس الرائحة. بنفس الخاتمة: حفرة في الأرض، وفراغ في حضن الام.
وإن حالفه الحظ ونجا، يطرح عليه السؤال المعتاد: “ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟ فيجيب “نحن لا نكبر”.
الأطفال في غزة يجري انتشالهم من تحت الأنقاض بلون رمادي موحد. أطفال دون الخامسة يميزون بين F-16 و AH-64 و”الدرون الصغير” الذي “بيصور وبعدين بيقصف”. أطفالنا صاروا محللين عسكريين على الرغم عنهم.
الطفل في غزة لا يلقي بنفسه في حضن أمه، ويقول: “اخاف من الصاروخ” أحمد، إبن الثانية عشرة، لم يقل ذلك. كان يواسي والدته: “خلص يمّا، أمانة خلص”… طفل يواسي أمه… طفل يدفن والديه، طفل يصبر ويتماسك.
في الساحل، المشهد فظيع. لا يقل وحشية عما حدث في غزة. طفل يُنتزع قلبه من صدره، ويجرى الاتصال بوالده: “تعال، خذ ما تبقى منه”، وآخر يذبح، واخرى تغتصب. فقط لانهم ولدوا في الطائفة الخطأ…هكذا هي الطفولة في الشرق الأوسط.
الأطفال هناك لا يشاهدون مباريات كرة القدم، ولا يصنعون قوالب الحلوى المائلة، تلك التي يغطونها بالكريما … في غزة، مليون طفل ينتظرون مساعدات لا تأتي. لا ماء، لا دواء، لا كهرباء. فقط قصف. هل تعرف ان اسرائيل تحتجز 350 طفل في سجونها الديمقراطية؟
في الساحل السوري، لا توجد سجون… مفقط مقابر. الأطفال لا يعتقلون، انهم يدفنون مباشرة.
ما يحتاجه أطفالنا هو بسيط جدا: قصة قبل النوم. أغنية خافتة ويد أم. الأطفال في الساحل، كما في غزة، كما في كل زاوية مكسورة من هذا الشرق، لا يطلبون معجزة. يريدون فقط أن يمر يوم دون أن يموت أحد في الغرفة المجاورة.
يريدون أن يخافوا كالأطفال، أن يبكوا لأنهم سقطوا في ملعب المدرسة، يريدون أن يرتكبوا الأخطاء الصغيرة… كأن يكثروا من اكل شوكولا، ثم يوبخهم آباؤهم. يريدون أن يرسموا شجرة، أو قلب أحمر… او أي شيء لا ينفجر.
إسرائيل، كعادتها، صواريخها دقيقة جدا لكنها تصيب الأطفال…
ماذا سيحدث لهؤلاء الأطفال؟
بعضهم سيموت، سيدفن مبكرا. بعضهم سيكبر بعين واحدة، أو قدم واحدة، أو قلب لم يكتمل. بعضهم سيوضع أشلاءه في أكياس، وبعضهم سيتعلم مبكرا أن هذا العالم لا يحترم الطفل إلا إذا كان في المكان الصحيح، بلون العين الصحيح، ولون الشعر الفاتح والاملس. البعض سينجو جسديا، ويعيش بعقل محطم…
غالبا سيكبرون، إن نجوا، حاملين هذا الخراب في أعينهم. سيشار إليهم على أنهم “جيل الحرب”، كجيلنا. سيستيقظون كل حياتهم على نفس الكابوس، مثلنا… بعضهم سيحاول أن ينسى. لن يستطيع. مثلنا أيضا. بعضهم سيتعلم كيف يضحك، مثلنا أيضا لكن سيؤلم قلبه. وبعضهم سيختار البندقية، وسيستشهد.
سيكبرون غالبا مثلنا. قد يصبحوا مهمين الا ان داخلهم سيبقى طفل لم يعرف اللعب. سيتعلمون كيف يلبسون ربطات العنق، او فساتين انيقة، وكيف يوقعون خطاباتهم بجمل راقية، قد يصبحون وزراء، او كتاب، او موظفين في منظمات حقوق الإنسان، يرفعون شعارات عن الطفولة الآمنة، وعن السلام ويبتسمون في صور المؤتمرات. لكن في داخلهم، سيبقى طفل فقد طفولته، وفقد أصدقاء أطفالا مثله، وشهد على أسوأ الحروب في العالم، ثم نجا… ويا ليته لم يفعل.
سيبقى هذا الطفل مرتبك وسيفشل في الحب، مثلنا… سيفشل في الحياة، مثلنا أيضا… لا اقصد الحياة العملية، بل تلك الأخرى: الحياة التي تحتاج ثقة، وضحك بلا سبب. سيظل يخاف من الفرح، ويتقن الصمت أكثر من الكلام.
سيكبر، نعم.
لكنه لن يشفى.
*أستاذة جامعية، باحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باريس

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

الحل وطبيعة السلطة الفلسطينية القادمة!

  د. هاني الروسان* يعقد المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية يوم الخميس القادم اجتماعا يسبقه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *