مريم هشام*
في زوايا الذاكرة الجمعية للعرب، لا يزال اسم صدام حسين يتردد كرمزٍ للقوة والهيبة، رغم ما يحمله من تاريخ دموي، حروب عبثية، ومقابر جماعية. وفي مشهد آخر أكثر حداثة، يظهر أبو محمد الجولاني بلباسه العسكري وخطابه المحسوب، زعيم تنظيم متشدد ومصنّف على قوائم الإرهاب، لكنه بنظر البعض “قائد مقاوم” أو حتى “رجل دولة واعد”.
فما الذي يدفع شريحة من الجماهير لتبجيل هذه الشخصيات؟ لماذا ينجذب بعض الناس إلى السادي، القاسي، أو الإرهابي أكثر من انجذابهم للسياسي العقلاني أو المفكر الهادئ؟ هل هو وهم القوة؟ أم حنين إلى القسوة باسم “الأمان”؟ أم خلل أعمق في النفس واللاوعي الجمعي؟
علم النفس يفسّر هذه الظاهرة بما يُعرف بـ”متلازمة ستوكهولم السياسية”، حيث تنشأ علاقة تعاطف أو حتى إعجاب بين الضحية والجلاد، بين الحاكم والمقهور. في كتابه “The Authoritarian Personality”، يشرح عالم النفس تيودور أدورنو أن بعض الأفراد يميلون إلى طاعة القادة القساة، لأنهم يرون في سلطتهم الصارمة “طوق نجاة” من الفوضى الداخلية أو المجتمعية.
هذا ما يفسر كيف أن صدام، الذي حكم بالحديد والنار، يُبجَّل اليوم من قبل شريحة واسعة من العراقيين والعرب، خاصة من أولئك الذين عانوا من فوضى ما بعده. بالنسبة لهم، صدام لم يكن مجرد ديكتاتور، بل رمز للنظام والانضباط والكرامة المهدورة.
ليست كل قسوة مؤثرة، لكنها حين تتلبس بالكاريزما تصبح فتنة. الجولاني، رغم خلفيته الجهادية وارتباطه بجماعات متطرفة، عرف كيف يصقل صورته الإعلامية: من مقاتل ملثم راديكالي إلى زعيم يظهر على شاشة الجزيرة ببدلة رسمية. هذا التحول ليس عشوائيًا، بل يعكس فهمًا عميقًا لعلم التأثير الرمزي، حيث يتحول الشخص من مجرد قائد إلى أيقونة.
في علم النفس الاجتماعي، هناك ما يُعرف بـ”جاذبية القوة” أو Power Attraction، وهو ميل الإنسان للإعجاب بمن يملك السلطة حتى لو كانت متوحشة، لأن الهيمنة تُشعر المتلقي بالانبهار أو الأمان أو الرهبة.
الدراسات الحديثة، مثل بحث نُشر في مجلة Psychological Science، تشير إلى أن بعض السمات السايكوباثية مثل الحسم، الجرأة، قلة التردد، والثقة المفرطة، تُفسَّر عند المتلقي على أنها قيادة وكفاءة، رغم أنها في العمق تعكس نرجسية ولا مبالاة أخلاقية.
ليست هذه الظاهرة حكرًا على العالم العربي، بل تمتد لتشمل التاريخ البشري عمومًا. أدولف هتلر، رغم كونه أحد أكثر الزعماء دموية في القرن العشرين، استطاع أن يأسر قلوب ملايين الألمان بخطابه الناري وكاريزماه الفريدة. فحتى في الغرب، الذي يُجرّم النازية ويُدين فظائعها، لا يزال هتلر يُدرّس كمثال على “الخطابة السياسية الفعالة” و”القدرة الهائلة على تعبئة الجماهير”.
هذه الجاذبية المظلمة لا تُبنى على الأخلاق، بل على العمق النفسي لرمزية القوة، وقدرتها على استثارة مشاعر الانتماء والتفوق والتحدي في أزمنة الانكسار.
في الأدب والسينما، لطالما جذبنا “الشرير الذكي” أكثر من البطل الطيب. تفسير هذه الظاهرة لا يكمن في الأخلاق، بل في الجمال النفسي للقوة: قوة الحسم، الغموض، السيطرة، كلها سمات تثير الإعجاب الغريزي، حتى حين ترتبط بالعنف.
بحسب دراسة أجرتها جامعة Durham، فإن الشخصيات السادية تثير إعجابًا أكبر حين تُقدّم في سياق “بطولي”، أو عند مقارنتها بزعماء مهزوزين أو مترددين.
سيغموند فرويد يطرح مفهوم “الأب السلطوي” كمكوّن نفسي ثابت في اللاوعي. حين تغيب الدولة، وتنهار المؤسسات، يبحث الإنسان عن “أب” جديد، حتى لو كان ظالمًا. في هذا السياق، يصبح الديكتاتور هو المعادل النفسي للأب الذي يضرب لكن يؤمّن البيت.
لهذا، يظهر الحنين إلى صدام بعد الاحتلال، أو التعاطف مع الجولاني في ظل غياب دولة قوية بسوريا. فالمجتمع الجريح يفضل “الجلاد الحامي” على “الحرية المفككة”.
رمزية المقاومة والكرامة
حين يظهر الطغاة بمظهر من يتحدى القوى الكبرى، فإنهم يستغلون ثغرة عاطفية في وجدان الشعوب: الإذلال التاريخي. صدام واجه أمريكا، الجولاني قاتل الأسد. هذه المواقف، رغم عنفها، تمنحهم شرعية رمزية، تجعل الناس يتغاضون عن جرائمهم بدافع الحنين إلى القوة.
حين يكون الجلاد “أجمل” من الضحية
المفارقة أن المجتمعات المنهكة لا تثق بالزعماء الطيبين أو المفكرين المعتدلين، لأنهم يُبدون ضعفاء أو غير حاسمين. التاريخ لا يتذكر المترددين، بل القساة. حتى في القصص والأساطير، ننجذب لـ”الشرير القوي” أكثر من “الطيب العاجز”. هذا الانجذاب ليس أخلاقيًا بل جماليًا – نفسيًا – وجوديًا.
في الختام: نحن لا نحب الطغاة… بل نحب ما يمثلونه
الناس لا تحب صدام حسين لأنه قتل، بل لأنه “واجه”، ولا تعجب بالجولاني لأنه متشدد، بل لأنه “ظهر بمظهر القائد الذي لم يخضع”. في زمن الانهيارات، يبحث الإنسان عن من يُشعره بأنه لا يزال قويًا، ولو كانت تلك القوة مغمسة بالدم.
هل الحل هو رفض هذه الرموز؟ أم مواجهة الحاجة النفسية التي صنعتها؟ السؤال لا يزال مفتوحًا، ما دامت الشعوب تبحث عن قادة لا عن شركاء، وعن أسياد لا عن ممثلين.
*كاتبة عراقية