علاء الدين مقورة*
لم تعد العلاقات الصينية–الأمريكية مجرّد تفاعلات بين أكبر اقتصادين في العالم، بل أضحت ساحة مفتوحة لصراع استراتيجي متعدد الأبعاد، يجمع بين التنافس الاقتصادي، المواجهة التكنولوجية، والتوترات الجيوسياسية العميقة. في خضم هذه المواجهة التي تأخذ طابعًا مركّبًا، فرضت الولايات المتحدة مؤخرًا حزمة عقوبات جديدة استهدفت شركات صينية متّهمة بدعم برامج التسلّح الروسية، وهو ما أعاد ترتيب الأولويات في معادلة الردع والضغط المتبادل بين واشنطن وبكين.
العقوبات الأخيرة، التي أعلنتها وزارة الخزانة الأمريكية في 2025، شملت أكثر من عشرين كيانًا وشخصية في الصين وبلدان أخرى، وُجّهت إليها تهمٌ بتوفير مكوّنات حسّاسة تُستخدم في تصنيع الطائرات المسيّرة، وأنظمة الملاحة، والتجهيزات العسكرية الروسية التي تُستخدم حاليًا في الحرب على أوكرانيا. هذا الإجراء، رغم أنّه يبدو امتدادًا للنهج الأمريكي التقليدي في تقييد الدعم غير المباشر لروسيا، إلا أنه يعكس في عمقه قلقًا بنيويًا من التقارب الاستراتيجي بين بكين وموسكو، ويعبّر عن رغبة واشنطن في رسم خطوط حمراء جديدة على خارطة التموضع الدولي.
غير أن هذه العقوبات لا يمكن فصلها عن سياق أوسع يتمثل في “المنافسة الشاملة” التي تخوضها الولايات المتحدة مع الصين، والتي باتت تشمل قطاعات التكنولوجيا المتقدمة (الرقائق، الذكاء الاصطناعي، شبكات الجيل الخامس)، سلاسل التوريد، السيطرة على الموارد الاستراتيجية، وحتى الفضاء السيبراني. فالصين، من جهتها، لا تُخفي نيتها في فكّ الارتباط التدريجي عن الهيمنة الغربية، وتُسارع لتعزيز تكتلاتها التجارية والمالية، في آسيا وما وراءها، في محاولة لبناء نظام عالمي متعدّد الأقطاب لا تقوده واشنطن وحدها.
من الطبيعي أن تشهد العلاقات بين القوى الكبرى تفاعلات حادة مع تواتر العقوبات والتصعيدات. وفيما يتعلق بالصين، لم تقتصر ردودها على الإدانة اللفظية، بل سعت إلى الرد على العقوبات الأمريكية من خلال سلسلة من التدابير المضادة. ففي البداية، رفضت بكين الاتهامات الأمريكية، معتبرةً إياها “تدخلاً غير مقبول” في شؤونها الداخلية، وأكدت أن التعاون مع روسيا يأتي في إطار “التحالفات السياسية والاقتصادية المشروعة”. كما دعت الصين الولايات المتحدة إلى وقف “التعسف في استخدام العقوبات” والعمل على تقليل التوترات بدلاً من تصعيدها.
على الصعيد الاقتصادي، تتبنى الصين استراتيجية فعّالة لمواجهة العقوبات الأمريكية عبر تعزيز الاستقلال الاقتصادي وتوسيع شبكة العلاقات التجارية العالمية. فقد أكدت على ضرورة تقوية اليوان الصيني كمنافس للعملات الرئيسية، خصوصًا في الأسواق النامية التي تشهد تنافسًا شرسًا مع الدولار الأمريكي. كما تواصل الصين مساعيها لاستبدال التكنولوجيا الغربية في مجالات مثل الرقائق الإلكترونية، وهو ما يعكس رغبتها في تقليص تبعيتها للغرب في القطاع التكنولوجي الحيوي. هذه الجهود تتزامن مع زيادة الاستثمارات الصينية في البلدان النامية، حيث تنشط مبادرة “الحزام والطريق” في نشر البنية التحتية وتعزيز العلاقات الاقتصادية.
العقوبات الأمريكية على الصين تحمل في طياتها تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على الاقتصاد العالمي. فالاقتصادات العالمية، خصوصًا في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ستكون الأكثر تأثراً نتيجة لارتباطها الوثيق بالعلاقات التجارية مع الصين. فالولايات المتحدة قد تسعى إلى تقليص التبادلات التجارية مع الصين، لكن في المقابل، يتوقع أن تواصل الصين توسيع حجم تجارتها مع دول أخرى، لا سيما في منطقة “آسيان” وأفريقيا.
لكن التصعيد الاقتصادي بين أكبر اقتصاديين في العالم له تبعات على سلاسل التوريد العالمية التي باتت تعتمد بشكل كبير على الإنتاج الصيني. مع استمرار العقوبات، قد يشهد العالم اضطرابًا في توافر المنتجات التكنولوجية، مما ينعكس على صناعة الإلكترونيات والمنتجات الاستهلاكية. ومن المرجح أن يعزز هذا الاتجاه البحث في سلاسل توريد بديلة، مما يفتح الباب أمام الشركات الأمريكية والأوروبية للاستثمار في أسواق جديدة أو إعادة تقييم سياساتها الاقتصادية.
المستقبل القريب يحمل العديد من التساؤلات حول الاتجاهات الاستراتيجية التي ستسلكها الصين والولايات المتحدة في إطار تصاعد التوترات. في هذا السياق، من الممكن أن نشهد تغييرات جذرية في موازين القوى الاقتصادية، حيث تسعى الصين إلى تعزيز مكانتها في النظام العالمي من خلال استراتيجياتها الخاصة. كما أن الولايات المتحدة، من خلال سياسات العقوبات، تأمل في تقليص نفوذ الصين في الأسواق العالمية، لكن في الوقت نفسه قد يؤدي هذا إلى تعزيز المواقف الوطنية الصينية، وتوطيد التعاون بين بكين ودول أخرى ترفض الهيمنة الأمريكية.
وفي المقابل، تعكس العقوبات الأمريكية حالة من الضيق الاستراتيجي في واشنطن، في ظل فشلها في تحجيم النمو السريع للصين في العديد من المجالات، بدءًا من التكنولوجيا وصولًا إلى التجارة العالمية. مع تطور الأحداث، من الممكن أن نشهد تحولًا في التحالفات الدولية، حيث تدفع الصين باتجاه إقامة نظام متعدد الأقطاب، لا يقتصر فيه دور الولايات المتحدة على الريادة.تستمر العلاقات الصينية–الأمريكية في السير على حافة الهاوية، مع تصاعد الحروب التجارية والاقتصادية، والتنافس الجيوسياسي الذي يعكس في طياته صراعًا طويل الأمد من أجل الهيمنة العالمية. العقوبات الأمريكية الأخيرة على الصين ما هي إلا حلقة جديدة في هذا الصراع المستمر. إلا أن الصين أثبتت مرونتها في مواجهة الضغوط الأمريكية، ومثلت هذه العقوبات فرصة لتعزيز استقلالها الاقتصادي والسياسي. وفي النهاية، ما بين التصعيد الدبلوماسي والتوسع التجاري، يبدو أن العلاقات بين الدولتين ستظل تشكل محوريًا في تحديد معالم النظام الدولي في العقود القادمة.
*كاتب و صحفي جزائري