د. معن المقابلة*
منذ انتصار الثورة الإيرانية بقيادة الإمام الخميني عام 1979، والعلاقات بينها وبين الغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة، تشهد تذبذبًا بين الاحتواء والمواجهة، وبين التسخين والتبريد.
لقد أطاحت الثورة بأقرب حلفاء واشنطن في المنطقة، شاه إيران، ورفعت شعارات مناقضة تمامًا لتوجهاته داخليًا وخارجيًا. وعلى الرغم من ذلك، لم تُغلق أبواب التواصل كليًا، فقد سعت واشنطن، في بدايات عهد الجمهورية الإسلامية، إلى اختبار إمكانية بناء علاقات جديدة مع النظام الناشئ. وقد كشف الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، الذي وقعت الثورة خلال ولايته، عن هذه المحاولة حين سُئل لاحقًا: لماذا رفضت الولايات المتحدة استقبال الشاه بعد الإطاحة به؟ فأجاب بصراحة: “لأننا لم نرغب في استفزاز النظام الجديد، أملاً في بناء علاقة معه.”
إيران، من جانبها، تتحرك بدافع مركب من الوعي التاريخي العميق بإرثها الإمبراطوري، وقراءتها الجيوسياسية الدقيقة لموقعها في قلب آسيا الوسطى. فهذه الدولة، الوريثة لحضارة فارس العريقة، لطالما رأت نفسها ندًا للإمبراطوريات الكبرى، وتدرك تمامًا ثقلها الجغرافي الذي يضعها في تماس مباشر مع قوى عالمية وإقليمية عديدة:
فهي تحدّها من الشمال أذربيجان وأرمينيا وتركمانستان وبحر قزوين الذي تتشاركه مع روسيا، ومن الشرق أفغانستان وباكستان، ومن الجنوب الخليج العربي وخليج عُمان، ومن الغرب تركيا والعراق. بل وتفصلها أفغانستان وباكستان عن شبه القارة الهندية، مما يجعلها لاعبًا محوريًا في معادلات المنطقة.
هذا الموقع الاستراتيجي الحيوي لم يغب عن واشنطن. غير أن إدراكها المبكر بأن النظام الجديد في طهران لن يكون تابعًا لها كما كان الشاه، دفعها إلى تبني سياسة مزدوجة: أولًا، السعي لمنع انجراف إيران نحو التحالف مع الاتحاد السوفييتي آنذاك، ولاحقًا مع روسيا أو الصين؛ وثانيًا، محاولة احتوائها وإضعافها دون دفعها إلى مواجهة شاملة. وقد تجسدت هذه الاستراتيجية في تغذية الصراعات المحيطة بها – كما حدث مع العراق – وفرض العقوبات والحصار، دون الوصول إلى كسر العظم.
هذا التوجّه الأمريكي، الذي ظل حاضرًا في عمق التفكير الاستراتيجي، عبّر عنه زبيغنيو بريجنسكي (مستشار الأمن القومي في إدارة كارتر) حين قال:
“لن نضغط على إيران إلى الحد الذي يدفعها إلى الارتماء في أحضان الصين أو روسيا.”
ورغم أن هذه المقولة تعود إلى زمن الحرب الباردة، إلا أن منطقها لا يزال فاعلاً في سياق التنافس الراهن بين واشنطن وبكين. فمع اشتداد التنافس الصيني-الأمريكي، واتخاذه طابع “الحرب الباردة الجديدة”، عادت منطقة آسيا الوسطى إلى واجهة الجغرافيا السياسية، خاصة في ظل مشروع “الحزام والطريق” الصيني، الذي يجعل من إيران ممرًا استراتيجيًا يربط شرق آسيا بأوروبا وأفريقيا.
من هذا المنظور، يمكن فهم كثير من خطوات إيران. فهي لا ترغب بأن تُحسب على أي محور، لا الشرقي ولا الغربي. وفي العدوان الأخير الذي تعرّضت له، أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أنه عرض على طهران تزويدها بمنظومة دفاع جوي متطورة، لكنها رفضت. هذا الرفض يمكن قراءته كرسالة متعددة الأبعاد:
فمن جهة، تحاول إيران أن تبقي على مسافة تحفظ لها استقلالية القرار، ومن جهة أخرى، تتجنب استفزاز واشنطن مباشرة، وربما تُراهن على استعادة دورها الإقليمي كما كان الحال في زمن الشاه، ولكن هذه المرة بشروطها الخاصة، لا بشروط التبعية.
وهذا ما يوضح بجلاء الصراع المحتدم بينها وبين الكيان الصهيوني، الذي يرى في إيران منافسًا إقليميًا عنيدًا قد يحدّ من دوره ونفوذه. فالعدوان الأخير الذي شنّه الكيان على الأراضي الإيرانية، والطريقة التي انتهى بها، يكشفان أن جميع اللاعبين في الإقليم يعملون – بشكل أو بآخر – تحت المظلة الأمريكية.
ورغم أن واشنطن تنظر في كثير من الأحيان إلى الإقليم من زاوية الرؤية الإسرائيلية، إلا أنها لم تنجرّ لأحلام بنيامين نتنياهو، الذي سعى منذ عودته إلى السلطة قبل نحو عقدين إلى دفع واشنطن نحو مواجهة مباشرة مع إيران، تصل إلى حد تغيير النظام. استخدم لهذا الهدف الضغط السياسي، واللوبي الصهيوني داخل واشنطن، وحشد الدعم الإعلامي، لكنه فشل.
فالولايات المتحدة، بمؤسساتها المتعددة ومقارباتها الواقعية، ترى في إيران الحالية – رغم عدائها – أداة تخدم بعض سياساتها الإقليمية، وفي الوقت ذاته، تعتبرها خطرًا يجب احتواؤه ومنعه من امتلاك السلاح النووي، لا بالضرورة القضاء عليه.
في المجمل، تسعى إيران لبناء دولة ذات سيادة، تعتمد على قدراتها الذاتية، وتنسج علاقاتها الخارجية على أساس المصالح المتبادلة لا الارتهان للمحاور، وهو ما يجعلها لاعبًا معقّدًا ومراوغًا في آن، في قلب جغرافيا تموج بالصراعات والتحولات.
*كاتب وباحث وناشط سياسي أردني
