د. هاني الضمور*
في رواية Burnt Shadows، تنقش كاميلا شمسي مأساة امرأة يابانية احترق ظهرها بنقوش طيور الكركي بعد قصف هيروشيما، لكن ندوبها لم تكن جسدية فقط. لقد أصبحت جسدًا حيًا للذاكرة. الندبة صارت وطنًا متنقلًا، تتنقل به من اليابان إلى الهند، إلى باكستان، إلى أفغانستان، ثم إلى الولايات المتحدة… وفي كل أرض، لا تنجو. لأن النار التي بدأت في هيروشيما لا تزال مشتعلة، لكنها اليوم تُسمى باسم آخر.
واليوم، في غزة، تُكتب رواية أخرى – من لحم، ومن صبر، ومن أطفال يُولدون تحت الركام. غزة ليست خلفية لصراع، بل جسد يتلقى ضربات العالم بصمت. وفي هذا الصمت، تكمن الصلة العميقة بين ما كتبته شمسي، وما نعيشه اليوم. فكما كانت هيروكو، بطلة الرواية، امرأة تحمل الحريق على ظهرها، تحمل غزة الحريق في كل بيت، في كل رحم، في كل مدرسة ومشفى ومسجد.
الرواية لا تروي تاريخًا فقط، بل تُسائل الذاكرة: لماذا يعاد إشعال الحرائق القديمة؟
تبدأ من قنبلة ذرية، ثم تتابع عبر احتلال، ثم هجرة، ثم حرب باسم “الحرية”، ثم إرهاب، ثم قانون، ثم سجون خفية في الأرض والسماء.
أليس هذا أيضًا ما تعيشه غزة؟
أليس ما بدأ بالنكبة، ثم النكسة، ثم الحصار، ثم “عملية عسكرية محدودة”، قد تحول إلى نظام متكامل من الإبادة المتدرجة؟
Burnt Shadows تتحدث عن ضياع الهوية. عن امرأة تسافر عبر القارات، لكنها لا تجد مكانًا يمكن أن يسمى “وطنًا” بالمعنى العميق.
وفي غزة، يقال إن أهلها لاجئون في أرضهم. تُقصف بيوتهم، فيبنونها من جديد، ثم تُقصف مرة أخرى، ثم يبتسم الأطفال من تحت الركام كما لو أن الهوية ليست وثيقة ولا أرضًا، بل قدرة على التحدي والبقاء.
كاميلا شمسي، وهي تكتب، لم تبرئ أحدًا. لا الشرق، ولا الغرب.
قالت إن القنابل لها جنسيات، لكن الضحايا يشبهون بعضهم بعضًا دائمًا.
وما بين هيروشيما وقندهار، وما بين كراتشي وغزة، خيط ناري يمتد:
أن تكون إنسانًا في زمن القصف، يعني أن تتعلم كيف تحيا وتُقتل دون أن يسمعك أحد.
في الرواية، يتم تسليم طفل إلى مصير مجهول، باسم الأمن، وباسم الحرب على الإرهاب.
وفي غزة، يسقط الأطفال كل يوم، بأسماء كثيرة: أهداف عسكرية، أضرار جانبية، أرقام بلا أسماء.
لكن كل أمّ تعرف اسم ابنها. وكل رصاصة تعرف قلبها.
الرواية لا تنتهي. لأن الألم لا ينتهي.
والندبة التي حملتها هيروكو على ظهرها، نحملها نحن اليوم على شاشات هواتفنا، في صور الأطفال الشهداء، في الخيام، في أكياس الدقيق، في أصوات الداعين على الظالمين.
غزة اليوم، هي ظل محترق ممتد من حريق العالم.
“Burnt Shadows” ليست رواية تاريخية، بل نبوءة عن مستقبل لا يتغير إلا حين يختار البشر أن يتوقفوا عن إحراق بعضهم بعضًا باسم الأمن، أو الحق، أو الرب.
وإذا كانت هيروكو قد بحثت طوال حياتها عن مكان واحد يمكن أن تشعر فيه بالسلام، فإن غزة، رغم جراحها، لم تفقد هذه البوصلة.
لأنها تعرف أن السلام ليس أن تُمنح صمتًا، بل أن تُمنح حياة لا تُهدد بالقصف كل صباح.
الرواية تسأل في النهاية: من يروي القصة؟ ومن يملك حق التسمية؟
واليوم، غزة تكتب روايتها بدمها، لأن العالم لم يترك لها قلمًا.
*كاتب اردني
