الخميس , يوليو 17 2025
الرئيسية / اراء / تدمير العالم العربي بالأمهات الثلاث!

تدمير العالم العربي بالأمهات الثلاث!

 

د. جمال الهاشمي*
إن ما يجري في العالم العربي لا يفهم بمعزل عن الأحداث ولا بالنظر إلى الأزمات السياسية أو الأمنية الظاهرة ولكن من خلال بنية كلية لمنظومة الأمن الكلي للوطن العربي واستراتيجية الأمم الدولية.
بهاتين المعادلتين يمكننا تجاوز الاختلاف التي تمنعنا من رؤية الذات لإعادة تقيمها ونقدها وتحييد سلبياتها وتنمية ايجابيتها، ومن أهم سلبياتها المؤامرات الداخلية وحب التصدر والزعامة وفرض المعتقدات بالجبر والإكراه أو من خلال استغلال الوظيفة العامة التي مارستها الأحزاب الإسلامية تحت شعار أسلمة المؤسسات وليس تحت استراتيجية التنمية العدلية والنهضوية للمؤسسات.
هذه العقلية الحزبية الإسلامية لم تدرك كيف بنيت حضارتي الدولتين الأموية والعباسية في ابهى حضارات الإنسان وأرقاها عدلا وتقدما رغم الصراعات التي طمست فيها كلما تمادت خمدت بقوة المجتمع والسلطان .
هذه الأزمات التي عرقلت مسيرة النهضة العربية استخدمت من خلال آلية تفكيك الأمة العربية من الداخل عبر آليات ناعمة وشرسة في آن واحد حيث يتم تجريف البنية المعرفية والقيمية للأمة وسحق مكونها الإنساني المنتج وتحويله إلى أشلاء نفسية متفرقة لا رابط بينها إلا الخوف أو الحاجة أو الطائفة والاستبداد واحتكار الحقيقة من غير دليل وبرهان حتى أولئك الذين يستدلون بالقرآن يحولون محكمه إلى متشابه ومتشابه إلى محكم في أكبر مغالطة شهدها العقل العربي وحرفها عن سياق التفسير النبوي وما سار عليه الصحابة والتابعية بعلمي الرواية والدراية معا.
وفي العراق تجلت التجربة باكرا وبمنتهى العنف والدقة حيث لم يكن الهدف إسقاط نظام صدام حسين الذي كان له بقدر ما كان عليه وإنما تمحور الهدف الرئيس على إسقاط نموذج يحاول بناء أمة عربية خارج السياق الإسلامي، إسقاط عرقية بتحركات أممية ساهم العرق العربي والعالم الإسلامي في إسقاطه، العرب حاربوه حتى لا يكون مركز عروبيا والإسلاميون حاربوه تحت دواعي تفكيره وتفجيره، لكنهم حاربوه بتلك الأفكار عبر أذرع دولية تعادي العروبة عرقا والإسلام دينا ومعتقدا والعراق فلسفة وحضارة.
كل ذلك يخيف العالم المتقدم لأن الحضارات وإن كانت ذات تراث عقلي تاريخي يهدد الحضارات الدولية أو ينافسها وذلك كله مما تتميز به العراق لهذا كان سقوطها سقوط لدول أخرى بدأت منها وعبر الشام ومنها سيكون الطريق معبدا الى مصر وما بقي من دول الخليج ستبقى منجما للنفط ثم يعاد دفنها بالجهل في صحراء بعيدا عن الحضارات التاريخية.
كان اسقاط العراق من داخلها عبر تدمير مركزها العلمي وتفريغها من كفاءاتها الاستراتيجية بآلية عسكرية زرعت قواعدها لتوسيع الفجوات العقائدية و إبادة عقلية ممنهجة خطط لها لسنوات وجرى تنفيذها تحت أعين المنظومة الدولية التي يفترض بها الحياد والإنصاف فإذا بها طرف مباشر في الجريمة.
إن قرار مجلس الأمن رقم 1441 الصادر عام 2002 لم يكن ممهدا لغزو العراق فحسب، وإنما كانت وثيقة إدانة أخلاقية للمنظومة الدولية التي عملت على تهجير العلماء العراقيين تحت دواعي حمايتهم بينما كان الهدف تجفيف منابع العلم والمعرفة في العراق وسلبه رأسماله البشري وقد تم استكمال ذلك بقرار الكونجرس الأمريكي الذي قنن هجرة العلماء العراقيين في مطلع عام 2003 بقانون خاص ليتحول الدماغ العراقي من عنصر سيادة وطنية إلى سلعة استراتيجية يتم اقتناؤها أو تصفيتها حسب طبيعة تخصصه ومدى تهديده لمعادلة التبعية.
لا يمكن قراءة هذه الخطوات إلا في سياق منظومة شاملة تشتغل على إعادة هندسة المجتمعات العربية وفق نموذج وظيفي يعمل على تعطيل قدرة الإنسان العربي على التفكير أو المقاومة أو التميز.
فالعالم العربي اليوم يدار بمنهج ما بعد الكولونيالية حيث الاحتلال لا يحتاج إلى مدرعات بقدر احتياجه إلى اتفاقات وإعلام ونصوص قانونية تصنع الاستسلام باسم الشرعية وتبيد العقول باسم الحماية وتهلك المجتمعات تحت مظلة محاربة الإرهاب، الإرهاب التي صكته الأنظمة العربية وفتحت الباب من خلاله لاختراق منظومة الأمن المجتمعي ومنظومة القوة العسكرية للدولة.
لقد تم تصفية أكثر من 5500 عالم عراقي في أول عامين بعد الاحتلال بطريقة احترافية عملت عليه الدول العميقة العابرة للحدود.
إنها لا تترك خلفها أثرا ولا يصدر عنها قرار رسمي بالإبادة ولا يعلن ملابسات اغتياله، بل يقتل الإنسان العراقي لأنه كان يمتلك المعرفة، ولأنه يملك القدرة على انتاج الحضارة، ولأنه قادر على بناء قاعدة حداثية عربية.
ولم تكتفي باغتيال النخبة بل طردت أكثر من عشرة آلاف عالم آخر من جامعاتهم ومختبراتهم وتم نفيهم قسرا أو إجبارهم على الهجرة عنوة لأن وجودهم بات خطرا على مشهد ما بعد الاحتلال الذي لا يحتمل وجود العقل، وسواء كان طردهم بعقلية الطائفي أو بعقلية من يسعى للهيمنة على الوطن بحسابات الانتصار العقائدي وليس بمناصرة العدل والقيم الإنسانية أو انتصار الدين والأخلاق والعلم والمعرفة والعقل المتزن.
الأنظمة العربية لم تشارك في هذه المنظومة بصمتها وليتها كانت كذلك لكنها و في كثير من الحالات قدمت مبادرات مسبقة لأنها تخشى من أي نموذج نهضوي عربي أكثر مما تخشى من العدو الخارجي و لأنها تدرك أن نجاح أي تجربة عربية في التحرر من التبعية قد يؤجج الوعي الحضاري ويوسع مداه إليها وقد يهدد شرعيتها القائمة على الانقسام والتعطيل والتخابر.
لذلك كانت وما تزال تتآكل محليا بقدر تآكلها قوميا وإسلامية وإنسانيا وأخلاقيا فهي إما أن تخنق التجارب في مهدها أو تتواطأ في وأدها وكما حدث مع العراق سيحدث مع غيره، لا بد من أنظمة عربية لا تخلق التوازن بين مصالحها الخاصة ومصالح شعبها، وإنما تعمل على تعطيل إرادة شعوبها حتى في الزراعة.
ومن المنطقي أن تعطل الزراعة كآخر ما توصل إليه السوق العالمي من تعطيل للمعرفة والتنمية والصناعة والتقنية، فعلى سبيل المثال نضع مقارنة مخجلة بين فرنسا التي تصدر القمح بمساحة نصف مليون والسودان أو المغرب أو … التي تزيد مساحاتها على فرنسا بالضعف وخمسة إضعافه وتستورد القمح.
غالبا ما تستخدم المعتقدات الطائفية لإعادة ضبط أي حركة نهوض باتجاه التدمير الذاتي وتتحول الطائفة من انتماء روحي إلى معبر للانقسام الداخلي وتفتيت الإرادة الجمعية فكلما ظهر مشروع تحرري يستدعى خطاب الطائفة ليعاد توجيه الصراع إلى الداخل ليفشل الفعل الجماعي وتستخدم العواطف الوطنية والدينية والقومية لإعادة إنتاج التخلف بشكل أكثر قابلية للاستدامة؛ فالعاطفة لا تبني وعيا بقدر ما تسعى لتفريغ الوعي وتحويل الإنسان إلى كائن اندفاعي يقاتل تحت وهم الشرف والهوية ولكي يموت من أجل لا شيء كما كانت القبائل تقتل أمة من بنيها لأجل ناقة أو تقتل الناقة بسبب المرعى.
تدمير العالم العربي لا يتم من الخارج فذلك لا يمكن تحقيقه وإنما من الداخل عبر أدوات ثلاثية الأبعاد الحرب لإسقاط البنية المادية والجهل لإطفاء البنية المعرفية والمجون لإهلاك البنية القيمية ويتم الجمع بينها بنسق متدرج يضمن تفكيك الإنسان العربي إلى وحدات مستهلكة عاجزة عن الاندماج في مشروع استراتيجي أو الإيمان بقضية أو الانخراط في نهوض حضاري.
إن تجربة العراق لا تشكل استثناء بل تقدم النموذج المختبري الذي يجري تعميمه حيث تبدأ العملية بقرار دولي وتنتهي بمقابر جماعية للعقول وما بينهما تمرر نصوص وتشريعات ومبادرات وشعارات وكلها تشتغل على إنتاج فراغ حضاري هائل يسمح بإعادة تدوير الهيمنة باسم التعددية وإعادة الاستعمار باسم الحرية.
يا عالمنا العربي لا نهوض بدون كسر هذه المنظومة ولا تحرر بدون استرداد العقل ووضع المعرفة في موقعها الطبيعي كأداة سيادة لا كخدمة استشارية لدى السفارات والسياسات ما لم تنتج المعرفة داخل السياق وتحميها الإرادة ويعاد بناء الإنسان بوصفه فاعلا تاريخيا إنسانيا وقيميا وأخلاقيا.
*كاتب عراقي

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

نزع السلاح والتوازنات الجديدة في قلب المعركة…!

زياد فرحان المجالي* مع تصاعد الحرب على غزة ودخولها شهرها الـ21، تتكثّف الضغوط الدولية للتوصل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *