خالد شحام*
حاولت قبل أسبوعين أن اهرب من صور الأطفال المجففين في غزة وأولئك الذين يموتون وهم معفرين بسخام الطحين الأبيض ، لم تعد الصور تأتي في الليل فحسب ، بل أصبحت رفيقة النهار ، لا يسعني إلا الاعتراف بأنني أريد إطلالة بصرية تمنح قلبي بعض السكينة ، أشعر بعطش شديد وجوع مريب منذ شهور طويلة ، أتمنى لو أقبض بحر التفكير الذي يموج في مخيلتي وألقي به بعيدا حتى يخف هذا الضغط عن الخلايا العصبية المثخنة ، أعترف بأنني حاولت الهرب من ذاتي من خلال السفر إلى المجهول ، قررت ألا يعلم أحد بمكاني حتى أتخلص من كل المكالمات والاتصالات والاستشارات والطلبات والأخبار والأنباء العاجلة إلى مكان لا يعلمه أحد ، أريد تلك الرحلة إلى الوادي المفقود حيث لا سيارات باذخة ولا هواتف ذكية ولا أثرياء ، لا أريد رؤية الوجوه التي ساءت الزمان ولا أريد سماع أي تصريح أو تنديد أو رؤية مذيع ، سأبتعد ، ربما سأمضي نحو المعبد الذي يعانق الجبال وتربت على سطوحه سحب الصباح والمساء ، ربما سألوذ إلى قريةٍ من دفتر الذكريات إلى الريف المنسي كي أتلاشى من جديد في بعض السكون وبين الحقول .
بمجرد أن دخلت المطار ومررت في نقاط التدقيق وختم الجوازات ، حدق الضابط في الشاشة التي تقبع أمامه مثل الجاسوس الصامت ثم أوشت له بشيء ، قطب حاجبيه ثم حدق بي : إذا أنت فلان أليس كذلك ؟ ، ثم أشار لي بيده كي أتبعه إلى واحــدة من تلك الغرف ، جلست قرابة الساعة دون أن يسألني أحد أو يقترب مني أحد ، عقب ذلك يطل مسؤول ما ويجلس خلف المكتب ثم شرع يسأل ويحقق ويدقق في لون البشرة وطول القامة ونوع الحذاء وهل توجد جينات خطرة على الأمن القومي وهل اللون أخضر أم أصفر أم أزرق أم ماذا بالضبط .
لاأعلم ماذا أقول ولكنني متأكد بأن هذا الرجل يشبه شخصا أعرفه جيدا ، نعم لقد تذكرت إنه ذاك الشخص المدعو (أفيخاي) ، لكن ماذا يفعل (أفيخاي) داخل المطار ولماذا يذهب ويجيء بكل حرية في مطار عربي؟ بعد ساعات و تداخلات جلست بحضرة الضابط المسؤول منكمشا على نفسي ورحت أتأمل في وجهه الذي أتيقن بأنني أعرفه وأشاهده طيلة الشهور الماضية ، مهلا أليس هذا (ايتمار) السمين ذي النظارتين الدائريتين والوجه ذي متلازمة داون ؟ لكن ما الذي جاء بهذا المجرم هنا ؟ مضت الأمور بالتوقيع على كومة كبيرة من أوراق اللعب التي تتضمن تعهدات والتزامات بالرقص والطرب الابتعاد تماما عن أية مواد ممنوعة المرور مثل غزة أو اليمن أو لبنان أو أي شيء من ذلك .
عقب نفاذي من المطار وتوجهي نحو الفندق ، كانت نفسيتي تشبه بطارية مشحونةً بأيونات العفاريت ، لم أفهم أبدا : لماذا يطاردونك يا غزة وأنت من ينقذهم ؟ لماذا يسعون في أثرك ويمحون اسمك من الذاكرة والحاضر والماضي ؟ لكن السؤال الذي يقض مضجعي هو : لماذا ؟ وكيف وصل أفيخاي وايتمار إلى المطار ولماذا يشتغلون فيه ؟
مع ساعات المساء المتأخر كنت أجلس في حديقة الفندق لاحتساء بعض القهوة وكانت شاشةٌ كبيرة قبالة الجدار تسلي الجالسين ، ظهر رئيسُ جمهورية وراح يلقي كلمة وكلنا نستمع وهو يطالب بايقاف الحرب وتمرير المساعدات ، تأملت وجه الرجل جيدا ودب الذهولُ في عيني ، وأخذت أتلفت من حولي ، يا جماعة أليس هذا هو نتانياهو بنفسه ؟ لماذا لا يعترض أحد ؟ ما الذي جاء بنتانياهو وحل محل رئيس جمهورية ؟ منذ متى أصبح هذا المجرم حاكما عربيا ؟ الأعجب في الأمر أن أحدا لم يبد اهتماما وبدا الأمر كله طبيعيا للغاية !
بدأت أشك بأنني مصاب بنوع من الهلوسة أو التخيلات ، لكن الأمر لم يتوقف هنا ، أكاد أكون متيقنا بأنني طيلة أيام وجودي في الأسواق والجولات لمحت اسماعيل هنية ، ومتأكد من أنني شاهدت يحيى السنوار في لحظة خاطفة ، وما صعقني انني شككت برؤية شيخٍ له وجه عز الدين القسام ، ولا شك عندي بأنني رأيت الشهيد أنس الشريف وحتى اسماعيل الغول مرات متعددة ولحقته للسلام عليه ولكنني لم أتمكن منه ، فما الذي يجري ؟ وكيف يحدث أنني هربت من غزة لأجد معالمها أمامي من جديد على الرغم من كل هذه المسافات ؟
في بعض الأحيان وعندما تغرق في تخصص ما بعمق ، تكتشف بعد فترة بأنك قادر على بناء نموذجك الخاص من مركبات التحليل والفهم والرؤية لكل ما يجري من حولك في هذا الكون ، وهكذا يرى الأديب الفيلسوف العالم نصا ناطقا محاورا ، كلماته هي البشر وسطوره هي الأحداث ، ويرى الرسام هذا العالم ألوانا متحركة تدب فيها الحياة و قادرة أن تصنع عالما كاملا من الأطياف ، عندما تدرس الفيزياء تتوصل –ربما – إلى بعض المفاتيح الصحيحة لفهم الحياة السرية للجماد والحي وتكاد تلمح أن لا فروق بينهما ، ولكن هنا عليك أن تكون حذرا جدا ، لأن دراسة العلم في داخل الحيز المعرفي الغربي يُلزِمك من حيث لا تدري بحتمية التفكير المادي المجرد ويعزلك في أطره المقاسة السطحية عن حقيقة الله ، وقد تنجرف وراء أكاذيب الاستبصار والطاقة الحيوية والتأمل والخدع الكهنوتية الملبسة بثوب العلم .
في داخل الفيزياء تربض قوانين أو ظواهر تمثل مفاتيح فك شيفرة الكون والألغاز الكبيرة فيه ، ومن الصعب جدا على الشخص العادي أن يدرك ما أقوله ، أحد هذه المفاتيح شيءٌ يدعى ظاهرة الرنين ، والرنين يا سادتي هو الظاهرة الفيزيائية والفلسفية التي يتناغم فيها شيئان في توافقٍ تام بحيث ينادي الأول فيجيبه الثاني ، فعندما يصدر الأول طاقته بتردد معين يستجيب معه تلقائيا الجسم المشابه له في هذا التردد ويتحد الإثنان في سيمفونية واحدة ، إنها ظاهرة تأثير الفراشة ولكن بقناع ملتبس ، وهي أشبه بالظاهرة العجيبة في قصة السندباد عندما قال تحديدا : افتح يا سمسم ! حتى فتحت له المغارة بأرحبها ، يمكن لوترٍ مهتزٍ أن يتسبب في رنين كأس زجاجي يجلس ساكنا إذا توافق الترددان، يمكن للكهرباء المتدفقة في دائرة مانعة أن تمر بسهولة وتخترق العازل و المعوقات عند الرنين الصحيح ، وفي حالة أخرى من رنين آخر تغلق الدائرة الموصلة أمام الكهرباء حيث تتصرف وكأنها أبواب موصدة بإحكام ، لا يدرك كثير من المختصين بأن العبادة هي بوابة رنين كهرومغناطيسي ، وإذا تمكنت من الاخلاص الصحيح فيها فإن بوابات كثيرة تفتح بفعل الرنين عندما تصل المستوى الصحيح من التناغم ، ويغفل كثيرون أن سبب أمراض العصر بلا منازع هو ظاهرة الرنين ، حيث تتضاد خلايا أجسامنا المتعبة مع كل الترددات المحيطة فلا يحدث التناغم فيكثر التعب والمرض واليأس وتمرض الأرواح ، ولا يعلم كثيرٌ من الناس بأن المقاومة التي تقاتل في غزة دخلت في التردد الطبيعي الصحيح للكون ولغايات الله في خلقه ، لذلك استبسل هؤلاء الأبطال وخرجوا من نطاق الخواص الآدمية الهزيلة والضعيفة ، في ظاهرة الرنين تناديك الأشياء عندما تعزف أو تتوافق مع تردداتها الطبيعية وتأتيك حبا وكرما ، لهذا السبب يتوافق بعض الأشخاص تلقائيا وتنجح صداقات وزيجات وتفشل أخرى عندما لا تتفق معادلات الرنين السرية في الصوت والضوء والكهرومغناطيسية والشيفرات الأخرى التي لم ندركها بعد ، ولهذا السبب تشعر بالرحب والسعة إذا دخلت أماكن بينما تلفظك وتدفع بك أخرى إن لم يكن الرنين متوافقا أو متناغما ، إنه قانون جذري في خصائص الأحياء والجمادات في هذا الكون العجيب ، ولكن حذار من خلط هذا الفهم مع علوم الدجل وتحريف المقاصد التي رسختها الثقافة الإسلامية والتي تؤكد بأن الوحدانية والقوة المطلقة والإراداة المطلقة هي بيد الله وحده .
الان استطعت أن افهم لماذا يتواجد أفيخاي وايتمار والأشقر القذر في كثير من المطارات العربية ، وآلان فهمت لماذا يتواجد نتانياهو إحلالا في وجوهٍ كثيرةٍ من التي تطل بها الشاشات المعيبة والفضائيات السليبة ، إنه الرنين ، فما أن عزف المجرم نتانياهو جريمته الفادحة في غزة حتى تناغمت مع جريمته كل الكائنات الخبيثة ومما تحت الأرض وبين الشقوق والجراح ونجمت من وسخ الأرض لتؤازر الجريمة بكلمة أو فعلة أو سكوت أو أذى للشعوب ، ولنفس السبب أطلقت غزة رنينها الكهرومغناطيسي في طوفان الأقصى حريةً وعدلا وكرامةً واستجابة لنداء الأرض لتبعث وتحفز الكائنات الفاضلة والظواهر الإحسانية ، ولذلك تجدون يحيى سنوار في شكل ثائر أو متظاهر في هولندا او ايرلندا أو لندن أو باريس يتظاهر ويتدافع مع رجال الشرطة وهو يشتم رجال البرلمان لسكوتهم على جريمة غزة ، ولذلك تجدون صحافيا وإعلاميا يعاد تجديد روح أنس الشريف فيه مرة أخرى في نسخ متعددة ، وتجدون نسخا متفاضلة من اسماعيل هنية ومحمد الضيف والطفل يوسف والزوجة هديل والأم فاطمة وهن يقاتلون نيابة عن نساء غزة الشهيدات أو الباقيات تأثرا بالرنين الفائق الطاقة الذي تطلقه نجمة غزة الفضائية .
لم أتمكن تلك الليلة من النوم ورحت أحدق في البعيد لكي أفهم ماذا يجري ، اكتشفت بأنني لم أسافر ولم أبتعد أبدا ، لازال هنالك ترابط كمي ما يقيد هذه المتغيرات حتى لو حصلت الإزاحة المادية لجسم متحرك إلى المجهول في معادلات المسافة والزمن ، جميعنا اليوم تحت نبــوءة عسقلان الخالــدة ولم يعد من فكاك بين مصيرنا ومصيرها وانتصارها الحتمي ، ولن ينجح لا المجرم الحالم بالمجد والأساطير ولا كل حلفه .
في الحقيقة أن محاولة الهروب فشلت بجدارة ، واكتشفت أن فيزياء الروح أرجعتني إلى غزة التي ترفض مغادرة خلايا عقلي وجسدي ودمي ، أنا هنالك فيك ومعك ، معك داخل المشافي الحزينة وداخل الخيام المحترقة والتي تسكن لهيب الشمس ، أنا معك أفزع من نومي كلما صرخت إمرأة لأنها فقدت طفلها أو زوجها أو عائلتها ، انا معك أشعر بالنزيف من قدمي ويدي وجسدي كلما رمى المجرمون رصاصهم على الأبرياء ، أنا معك وفيك وأقف في طابور الباحثين عن الطحين الأسود وكرتونة المساعدات المغمومسة بالسُمِّ الأمريكي والموت الاسرائيلي ، لقد تلقيت شظيةً في صدري وأخرى في عيني وتسمم عظمي من المعادن التي تتناثر في الهواء عقب الانفجارات ، أسمع زنين المسيرات في منامي وفي قيامي ، أنا معك يا سيدة الكون أربت على الأكتاف المتعبة وأمسح حزن الوجوه الجميلة ، كلنا معك يا غزة حتى لو اقاموا الحواجز واعتقلوا حبنا العظيم لك ، كلنا معك يا غزة ونحن موجودون فيك وأنت موجودة فينا حتى لو منعونا من أن نركض إليك وأغلق المعبر ، كلنا معك يا غزة حتى النهاية ، لقد طغى الرنين الذي تعزفينه على رنين الآثمين والمجرمين وانتقل عبر الفضاء والهواء والماء إلى كل العالم واعاد إحــياء الطيبين والصالحين والمحسنين من كل لون وكل جنس وأعاد إحياء الخير في البشرية والإنسانية ، أنظري يا ملكة العالم إلى اليمن العظيم ، أنظري إلى الشعوب الحرة ، كلنا معك وكلنا نقيم تحت حطامك وركامك حتى يأذن الله بيوم نصرك وندخل أرضك المقدسة التي تفجر نورها ضياءا لكل هذا العالم المظلم .
*كاتب فلسطيني
اليمن الحر الأخباري لسان حال حزب اليمن الحر ورابطه ابناء اليمن الحر