نايلة ناصر*
كانت غزة تغلي بانتظار قرار وقف الإبادة ووقف النار ومعها جميع شرفاء العالم، في الوقت الذي كان اعلام القرية الكونية ووسائله التواصلية، وحتى معظم المهتمين بما يحصل على أرض فلسطين، مشغولين أيضا بجائزة نوبل.
خلال اسبوع من كل عام، تستأثر الجائزة التي شهدت النور في ستوكهولم سنة 1901 تنفيذا لوصية العالم الكيميائي والمهندس الفريد نوبل، مخترع متفجر الباليستيت و355 اختراعا أشهرها الديناميت، تستأثر باهتمام واسع بوصفها أرفع الجوائز العالمية مكانة وتألقا. وهذا مفهوم اذا ما نظرنا الى أثر الجائزة على الفائز، إشهارا وربحا وانتشارا عالميا.
رغم الالق و الربح والشهرة المحصلة ، فأن هناك من رفضها أو من لم يستلمها.
هو حدث نادر جدا ولكنه حصل في تاريخ الجائزة العتيقة. خلال المئة وخمسة وعشرون عاما الماضية، رفضها ثمانية اشخاص ، قسرا او طوعا :
هناك الذين منعوا من قبول الجائزة من قبل السلطات الحاكمة كما في حالة الصحفي الألماني كارل فون أوسيتزكي ، أمين عام مجمع السلام الالماني وكان من داعمي الديمقراطية والتعددية الحزبية خلال حكم جمهورية فايمار. منح أوسيتزكي سنة 1935 نوبل للسلام ولكن الحكومة الألمانية منعته من السفر إلى النرويج لتسلم جائزته وكان قد حكم عليه هتلر سنة 1931 بالسجن في معسكر اعتقال لمدة سنة بتهمة الخيانة العظمى بسبب نشره معلومات تتعلق باعادة التسلح العسكري لألمانيا ــ وكان الأمر سريا ــ بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. أثر قرار المنع، غضب الفوهرر وأصدر مرسوما يحظر على جميع الألمان قبول جائزة نوبل فكانت النتيجة منع كل من ريتشارد كون (نمساوي ـ الماني ) وهو عالم كيمياء حيوية حصل على جائزة نوبل سنة 1938 لإنجازاته في موضوع الفيتامينات، وأدولف بوتنانت الذي نال الجائزة سنة 1939 نظرا لعمله على الستيرويدات ( المنشطات) الجنسية، وجيرهارد يوهانس باول دوماك عالم الميكروبات الالماني، مكتشف السلفوناميدوكرايسودين ( أول مضاد حيوي يسوق تجاريا) والذي حصل على الجائزة في علم وظائف الاعضاء سنة 1939. الثلاثة حصلوا عليها دون أن يتمكنوا من تلقيها.أيضا اضطر الكاتب الروسي بوريس باسترناك الذي اشتهر في الاتحاد السوفياتي كشاعر كبير لرفض الجائزة سنة 1958خوفاً على سلامته وسلامة عائلته، بعد أن تعرض لضغوط كبيرة عقب نشر روايته الشهيرة ” دكتور جيفاجو” في إيطاليا بداية سنة 1957 ( رفضت دور النشر السوفياتية نشرها في حينه ) وطرد من اتحاد الكتاب السوفييت. في البرقية التي أرسلها إلى الأكاديمية السويدية قال باسترناك : “بسبب المعنى الذي فرضته في مجتمعي، يجب عليّ أن ارفض هذه الجائزة… لا تعتبروا أن هذا الموقف إهانة مني لكم…”
اما الكسندر سولجنيتسين، المعارض الروسي وألاديب والروائي والكاتب المسرحي ، صاحب ” جناح السرطان ” و” الدائرة الاولى ” و ” أرخبيل الغولاغ ” ــ روايات تلقفها الغرب أواخر ستينيات القرن العشرين وسوقها بدرجة كبيرة ــ ما مهد لمنحه نوبل للأدب سنة 1970. سولجنستين هذا ، لم يرفض الجائزة ابدا، بل امتنع من تلقاء نفسه عن الحضور الى ستوكهولم لتسلمها خوفا من تجريده من جنسيته ومنعه من العودة إلى بلده، فقامت الحكومة السويدية بارسالها له عبر سفارتها في موسكو كما تقول بعض الروايات في حين يؤكد البعض أنه تسلّمها سنة 1974 بعد أن نُفي من الاتحاد السوفييتي.
لكن التحدي الأكبر للجائزة ، حدث مرتين .
الكاتب الفرنسي جان بول سارتر كان أول من رفض نوبل للأدب سنة 1964 بمحض إرادته ودون أي ضغط خارجي، سياسيا كان او اجتماعيا او ثقافيا . قال أنه يود أن يظل مستقلاً ولا يُحتوى من قبل أي مؤسسة. خشي أن يتمأسس، أن يتحول إلى كيان مقولب، أن يصير هو نفسه “مؤسسة”. وقد أثار الخبر الكثير من اللغط مع أنه كان قد حذّر قبل أيام قليلة من إعلان النتائج، أنه سيرفض الجائزة إذا مُنحت له. كان سارتر قد رفض بالفعل تكريمات مرموقة أخرى سابقا، مثل وسام جوقة الشرف الفرنسي عام 1945، وحتى كرسيًا في كوليج دو فرانس ( الكلية الفرنسية المرموقة المتخصصة بالبحث العلمي والتعليم العالي ).
في اليوم التالي لرفضه، أرسل إلى هيئات تحرير كبرى الصحف رسالة لشرح خياره: “الأمر ليس نفسه ان وقّعت جان بول سارتر أو إذا وقّعت جان بول سارتر حائز على جائزة نوبل. […] على الكاتب إذن أن يرفض تحويله إلى مؤسسة حتى لو حدث ذلك بأكثر الأشكال تكريمًا كما هو الحال هنا.” ودافع سارتر عن رؤيته للكاتب الملتزم والمستقل، ضد أي شكل من أشكال الاستيلاء عليه من قبل المؤسسات القائمة. لكن في رسالته، ذكر أيضًا سببًا آخر يتعلق بموقفه خلال حرب الجزائر، وتحديدًا مشاركته فيما عرف ببيان الـ 121. هذا الإعلان، الذي وقعه 121 مثقفًا وفنانًا فرنسيًا يدعو الجزائريين للنضال من أجل الاستقلال، تسبب في قمع شديد للموقعين عليه. وبالتالي كان قبول جائزة نوبل بالنسبة لسارتر، يعني على الأرجح خيانة هذا الالتزام و طعنة في ظهر زملائه، ومن بينهم الكاتبة سيمون دي بوفوار والكاتبة مارغريت دوراس أو المارتينيكي إدوار غليسان.
كان الأمر بالنسبة لسارتر شكل من أشكال الانتقام وقد ق على النحو التالي: ” جميع الأشخاص الذين كتبوا ضد الطبقة الحاكمة، أيا كانت، في مرحلة ما، حاولوا منحهم “قبلة الموت”. هذا يعني عمليا منحهم تكريما، او مالا او اشياء اكثر تورية لإجبارهم على التنازل قليلا”.
بعد سارتر ، أتى لي دوك ثو وهو سياسي ومحارب فيتنامي شمالي قاد البعثة الفيتنامية بين 1968 و 1973 لمفاوضة الأمريكيين في محادثات باريس للسلام وتوصل معهم إلى وقف إطلاق النار وإلى سحب القوات الأمريكية. منح المقاوم الفيتنامي جائزة نوبل للسلام سنة 1973 مناصفة مع هنري كيسنجر ( وزير خارجية الولايات المتحدة من عام 1973 الى عام 1977 ومستشار الأمن القومي من 1969 الى 1975) لكنه رفضها بحجة عدم الالتزام باتفاقية باريس للسلام كاملة إضافة إلى أن السلام لم يتحقق بعد في فيتنام ( استمرت الحرب بعد التوقيع على الاتفاقية ) وأن حكومة جنوب فيتنام لم تصادق على الاتفاق بينما قبل هنري كيسنجر الجائزة. وقد اثارت هذه الجائزة في حينه الكثير من اللغط واستقال عضوان من لجنة نوبل اثر اعلان النتيجة احتجاجا. ورغم سعي كيسنجر لاحقا الى اعادة الجائزة بعد فشل وقف إطلاق النار، الا ان الامر لم يتحقق له. وما زالت جائزة السلام هذه حتى يومنا هذا، أحد أكثر قرارات جوائز نوبل إثارةً للجدل والانقسام في الآراء.
على كل حال، تصر اكاديمية نوبل أن يخلد اسم من يفوز بالجائزة في السجل الرسمي وبالتالي ليس بامكان احد شطبه حتى ولو رفض تسلمها. لذلك تظهر أسماء سارتر و لي دوك ثو و باسترناك مثلا على الموقع الرسمي كفائزين، مع الإشارة إلى أنهم رفضوا الاستلام .
يبقى أن هناك شخصان على الاقل رفضا مسبقا مبدأ الترشيح مثل الكاتب المسرحي والروائي التشيكوسلوفاكي كارل تشابيك، أحد رواد الخيال العلمي وأول من أدخل كلمة “روبوت” إلى اللغة العصرية. ايضا الشاعر السويدي إريك أكسل كارلفلت ( شغل مقعدا في الأكاديمية السويدية خلال 11 سنة ) وكان يحظى شعره بشعبية كبيرة في بلده، تعفف سنة 1919 وطلب ازالة اسمه من قائمة المرشحين لأسباب اخلاقية كما عبر في حينه ولكنه مُنِحَ جائزة نوبل للأدب بعد وفاته سنة 1931. كان هذا استثناء لأن الجائزة تعطى فقط للأحياء.
هذا كان في الماضي . الماضي البعيد نسبيا. من يتعفف اليوم عن هذا التكريم ؟
ترامب رئيس اكبر واغنى دول المعمورة ، عدا عن ثروته الشخصية العظيمة، الحاضر يوميا على كل الشاشات، الغير محتاج الى الشهرة او الاشهار، بدا وكأنه يتوسلها توسلا لا يليق برئيس دولة من دول الجنوب الفقير، فما بالك برجل يملك مفاتيح الشرق الاوسط وكان ينوي ترحيل اهل غزة عن أرضهم واقامة منطقة سياحية عليها … لا بل اجتهد وتحمس واصابته ” النخوة ” وراح يسعى لإنجاز اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بحزم قبل ساعات قليلة تفصلنا عن منح جائزة نوبل للسلام… فعل ما لم يفعله منذ وصوله الى البيت الابيض من أجل الحصول عليها ! ولعله يعد نفسه بتحصيلها العام المقبل، فالتوقيت لم يكن مناسبا الآن بحسب البروفيسور بيتر والينستين، الخبير السويدي المعروف في العلاقات الدولية لأن لجنة نوبل اتخذت قرارها النهائي يوم الاثنين الماضي، قبل الإعلان عن اتفاق السلام المقترح من قبل الرئيس الأمريكي في غزة، ولم يكن اسم ترامب ضمن قائمة المرشحين النهائيين. يعني في امل !
أما الشخصيات والعلماء والكتاب والهيئات الأخرى السياسية منها او الاجتماعية العديدة المرشحة على لائحة نوبل ، فحدث ولا حرج. جميعها ينتظر عاما بعد عام : ال مهاتما غاندي رُشح 5 مرات، آخرها في عام 1947 قبل أيام قليلة من اغتياله .. لم يفز أبدًا وبالتالي لم تتح له حتى فرصة الرفض … تم ترشيح الكاتب ليو تولستوي ٥ مرات ، دون جدوى . جرى ترشيح الروائي الإيطالي ألبيرتو مورافيا بحسب الارشيف الذي رفعت عنه السرية لجائزة نوبل للآدب، من عام 1949 إلى عام 1971 ولم ينل الجائزة بسبب جرأته في تناول حياة الفقراء مما كان يعتبر ” مغايرا للمعايير المحافظة” المعتمدة من قبل الأكاديمية السويدية… اسماء عديدة متداولة منها عند العرب، اسم يوسف ادريس ، ولقبه ” مريض نوبل”، الذي رشح ٥ مرات وكاد يُجن يوم ربح نجيب محفوظ الجائزة… وليس آخرها اسم الشاعر العربي أدونيس ـــ المرشح الشرعي لنوبل العربية الثانية للأدب بحسب مريديه ـــ يُقدَم منذ ثلاثة عقود، عاما بعد عام، على أنه الوحيد الجدير بتحصيلها عربيا.
في واقعنا اليوم، تحولت جوائز نوبل إلى ما يشبه المزاد العلني العالمي، حدث يُذكٍر أحيانا كثيرة بمراهنات وشائعات كانت تعتمدها الصحافة الصفراء حصرا فيما مضى. راحت كل مجموعة سياسية أو حزبية ، كل مؤسسة ذات منفعة علمية او تجارية تشيد بشخصية او ترجح جهة فيما يوزع أعضاء الاكاديمية تكريمهم بحسب اعتبارات سياسية ، حتى في الأدب والعلوم. المكرمون يخضعون غالبا سياسيا لمنظومة يحددها شرطي العالم وعدد من الدول الثرية … من يحصلون اليوم على الجائزة، هم المطبعون مع النظام العالمي المسيطر ، المنظرون لمشاريع الغرب الاستعماري بحلته الجديدة كما هي الحال مع البرلمانية الفنزويلية المعارضة ماريا كورينا ماتشادو التي هتفت في تغريدتها في الذكرى الحادية والسبعين لإعلان استقلال الكيان الإسرائيلي الغاصب: ” نضال فنزويلا هو نضال إسرائيل!” والتي كانت قد طلبت من المجرم نتن ياهو مساعدتها للإطاحة برئيس بلدها نيكولاس مادورو.
وكان منح الجائزة سنة 2009 إلى باراك اوباما قد أكد على هذا المنحى الذي تتخذه الأكاديمية السويدية في قراراتها. كان قرار لجنة نوبل للسلام يومها بمثابة مفاجأة كبيرة إذ كيف يمكن اعتبار رئيس شن حربين في العراق وأفغانستان “صانع سلام” وهي الكلمة التي استخدمها الفريد نوبل لوصف السمة الرئيسية للحائزين على الجائزة.
أصبحت قرارات لجنة نوبل محل تساؤلات متزايدة تؤدي جميعها عند مراجعة وصية ألفريد نوبل الى نتيجة كارثية : “الجائزة تخدم مصالح سياسية وتجارية” كما خلص القاضي والكاتب فريدريك ستانغ هيفرميل في كتابه ” جائزة نوبل للسلام : الرؤية التي تلاشت”.
ألم يكن من الأجدر بالأوصياء على جائزة ألفريد نوبل أن يعطوها هذه السنة للمحامية الدولية والمقررة الخاصة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبينيز لأنها وقفت مع حق أهل غزة بالحياة ووضعت آلة الابادة القاتلة في دائرة القانون الدولي؟ أو للصبية السويدية غريتا تونبرغ التي تناضل من أجل البيئة والسلام و شاركت في أسطول الحرية وأسطول الصمود العالمي مؤخرا ؟ لماذا لا تعطى الجائزة الى مناضلي أسطول الصمود العالمي جماعة ؟ لماذا لا تعطى إلى الحركة الطلابية العالمية ضد الحرب على غزة التي ألهبت أعرق جامعات العالم الغربي ؟ الم تمنح سنة 2015 إلى ” الحوار الوطني التونسي ” لأنه كرس نجاح التحول الديمقراطي” كما صرح الرئيس الفرنسي السابق هولند عقب صدور الخبر؟ أليس احتجاج الطلاب الغربيين في جامعاتهم تعبير ديمقراطي كما تسمح به قوانين الديمقراطيات الأوروبية ؟
في نعي خاطىء سابق لأوانه نشرته صحيفة فرنسية سنة 1888، أدانت فيه اختراع ألفريد نوبل للديناميت جاء فيه : “لقد مات تاجر الموت . توفي الدكتور ألفريد نوبل، الذي جمع ثروته بإيجاد طريقة لقتل المزيد من الناس بسرعة غير مسبوقة”. هذا النعي كان الحافز المباشر الذي دفع صانع الاسلحة الفريد نوبل إلى ترك صورة أفضل عن نفسه للعالم بعد وفاته.
هل جوائز اليوم تشبه بالوصية ؟ أليست بالاحرى صكوك امآن لمن يسلح ويساعد في القتل ويمارس الابادة الجماعية يوميا منذ سنتين على الارض الفلسطينية ؟ !
*كاتبة لبنانية مقيمة في باريس
اليمن الحر الأخباري لسان حال حزب اليمن الحر ورابطه ابناء اليمن الحر