بقلم / فيصل مكرم*
▪منذُ خمسينيات القرن الماضي والثورات العربية تتصدر المشهدَ السياسي في معظم الدول العربيَّة، ثورات بمسميات مختلفة وأهداف متعددة وشعارات شبه واحدة، وعلى غرار ثورات التحرر الوطني في دول العالم الثالث انطلقت مواكب الثورات العربيَّة بشعارات تهزُ المشاعر وتعبِّر عن تطلعات شعوب تلك الدول التي عانت من كل أشكال الاستعمار الأجنبي وأنظمة الاستبداد لعقود طويلة، ثم لم تتمكن من تجاوز مخلفاتهما وما تركه المستعمر من تخلف عن ركب النهوض الحضاري، هو ذاته ما خَلّفه المستبد من صراعات بين النخب الطامحة للحكم، وخاصة مراكز القوى العسكرية التي أضعفت الثقة بين فئات الشعب واتسعت الهُوة بين الشعارات الثورية ومتغيرات ما بعدها، حيث إنه كثيرًا ما تحوَّلت الشعارات إلى تعبئة شعبويَّة هشَّة ونمطية مُملة في الخطاب والتوجيه.
▪الأنظمة الثورية رفعت شعارات الحرية والديمقراطية والمشاركة الشعبية والوحدة القومية والمصير المشترك، ولم تمارس عمليًا أيًّا من تلك الشعارات، فحين ساد الاعتقاد بين النخب والقوى الثورية بأن الديمقراطية تتجاوز الثورية وصفتها بالانتهازية السياسية لتبقى الديمقراطية شعارًا خطابيًا لا وجود له في الواقع، فقد تحولت الأنظمة الثورية إلى سلطة فئوية ومن ثم لحكم فردي مطلق غير قابل للتغيير أو التحريك، عوضًا عن إتاحة الفرصة، وإن تدريجيًا للأحزاب السياسية للتعبير عن الرأي الآخر وتعدد الأفكار والبرامج وتشكيل رأي عام يدعم مسيرة التنمية والبناء والاستقرار، والمشاركة الفاعلة في صنع القرار عبر مؤسَّسات دستورية نافذة تُمكِّن من تحقيق التداول السلمي للسلطة، حيث لجأت السلطات الثورية إلى صيغة نظام حكم الحزب الواحد للحد من الانقلابات وتحديد وجهة المُجتمع والنخب وَفقًا لأجندة حكم الفرد المُطلق .

▪والنماذج الثورية في عالمنا العربي لم تترك لنا تلك المآثر التي يمكن أن تصبح شهادات يُعتد بها تمامًا لجهة تحقيق الاستقرار والتنمية والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون ومحاربة الفساد وممارسة الديمقراطية انطلاقًا من ثوابت ومبادئ الالتزام بالهُوية الوطنيَّة، وفي إطار رفع مستوى الشعب ثقافيًا واجتماعيًا، حيث إن تلك المآثر لم تتجاوز كونها شعارات ثورية مرتبطة بخطاب الحزب الواحد، فهي بالنسبة للقوى الأخرى وجبهة المعارضة مجرد غطاء للسلطة المطلقة للقمع المُمنهج للرأي الآخر، ولإزاحة المنافسين والخصوم عن طريقها، بمن في ذلك المثقفون والأدباء والصحافة الحرة، ومن أجل ذلك كانت السلطة الثوريَّة تقوي نفوذها بشبكة من التحالفات الداخلية، ما ساعد على تفشَّي الفساد، ووسَّع من سخط العامة لتشهد معظم تلك الأنظمة في عالمنا العربي سلسلة من الانقلابات (الثورية) والصراعات والمنازعات السياسية والخصومة مع شعوبها.
▪دُوَّامة الصراع على السلطة وابتكار وسائل الحفاظ عليها، جعلا الأنظمة حبيسة شعاراتها وأزماتها ما أفقدها القدرة على بناء مشروع دولة المؤسَّسات وتضييق دائرة صنع القرار، والتعاطي مع متطلبات العصر وأولويات التنمية، والتعليم والخدمات التي يحتاجُها المواطن بلا مبالاة، وجعلها ذلك في أدنى مرتبة اهتمامها، كما أن دائرة الصراع على السلطة زادها هشاشة وسهل سقوطها بثورات وحركات انقلابية مماثلة وبذات الشعارات لتستمر عجلة الانهيار الداخلي في دورانها بسرعة مخيفة نحو الفشل الذريع، وبالمقابل حَصرت الأحزاب السياسية نفسها في دائرة الصراع مع السلطة من أجل السلطة، وخضعت لوسائل تغييبها ما جعلها عاجزةً تمامًا عن ممارسة الديمقراطية من داخلها، وخلق أفق التواصل مع شعوبها عبر برامج تحاكي احتياجاتها وتعوض ما فاتها فسهلت على خصومها ومناوئيها مهمة إقصائها وتحويلها إلى أدوات صدئة وظواهر هلامية بما فيها أحزاب ما يسمى بتيارات الإسلام السياسي، وكذلك التيارات الليبرالية لتجر معها تيارات ونخبًا وطنية إلى حافة العجز المطلق، ثم السقوط بنفسها وبالبلد إما في هاوية الفشل والدمار، والصراعات الطبقية والطائفية، أو مستنقع الفساد، والمُنازعات الدموية المخيفة.
*نقلا عن جريدة الراية