السبت , ديسمبر 13 2025
الرئيسية / اراء / حين قالت الجامعة لا لإسرائيل!

حين قالت الجامعة لا لإسرائيل!

د. محمد كرواوي*
في حياة الشعوب لحظات لا تقاس بالأرقام، ولا تختزل في بيانات، وإنما تصاغ بمعايير الضمير. ولعل ما جرى في الرباط خلال المنتدى العالمي للسوسيولوجيا لم يكن مجرد حدث أكاديمي يتعلق بورقة بحث أو مداخلة في ندوة، بل كان مواجهة حقيقية بين وعي الأمة وإغراءات التطبيع. فقد دخلت إسرائيل من باب العمل الأكاديمي، متخفية وراء أسماء جامعية ومؤسسات بحثية، لكنها فوجئت بأن الجامعة المغربية، رغم كل ما يقال عن السياق السياسي، ما زالت تحتفظ ببوصلتها، وما زال في ضميرها متسع لفلسطين.
كانت المسألة أعمق من مجرد مشاركة أسماء إسرائيلية في المنتدى، بل كانت اختبارا دقيقا: هل يمكن للجامعة أن تظل محايدة في لحظة احتلال؟ وهل يجوز للبحث العلمي أن يتعايش مع جرائم ترتكب في غزة وتبرر بلغة العلم؟ لقد حاولت إسرائيل الدخول من الباب الخلفي، بعدما عجزت عن انتزاع شرعية سياسية صريحة، فاتجهت إلى الجامعات والمؤتمرات، تقدم نفسها كجزء من العالم الحر. لكن الرد جاء من داخل الرباط، لا من بيانات خارجية، بل من مواقف انبثقت من قاعات الجامعة: طلاب يرفضون، أساتذة ينسحبون، وشرف أكاديمي يستعاد.
لم يكن انسحاب الأساتذة المغاربة، ومعهم زملاء عرب ودوليون، فعلا احتجاجيا عابرا، بل كان موقفا مؤسسا يعيد تعريف دور الجامعة في زمن الاختراق. لقد قال أحدهم في بيانه: الجامعة ليست حيادية حين يقتل الأطفال. وهذه الجملة وحدها كانت كافية لتلخص روح الموقف. فهي ليست انفعالا عاطفيا، بل وعي سياسي ناضج، يدرك أن التطبيع لا يبدأ من السفارات، بل من الكتب، وأن الاحتلال حين يشرعن وجوده في حقل المعرفة، فإنه يكسب ما هو أخطر من الاعتراف الدبلوماسي: يكسب شرعية الفكرة.

المفارقة أن الجمعية الدولية للسوسيولوجيا، التي علقت عضوية الرابطة الإسرائيلية، سمحت رغم ذلك بمشاركة باحثين من مؤسسات متورطة في دعم الاحتلال تحت لافتات أكاديمية أخرى. وهذا ما جعل الموقف المغربي أكثر صرامة ووضوحا: لا للاختباء خلف الحياد، ولا لتزييف الحقائق عبر عباءة البحث. وهنا برزت لحظة رمزية نادرة: الجامعة، التي كانت تتهم أحيانا بالانكفاء، أصبحت منصة الرفض، وحلت محل الدبلوماسية في حماية المعنى الأخلاقي للموقف الوطني.
في عالم تتراجع فيه كثير من العواصم عن مواقفها، وتتنازل فيه حكومات عن ثوابتها، برزت الرباط من داخل جدران الجامعة لتعلن أن الضمير ما زال حيا، وأن فلسطين ليست يافطة مهملة في مكاتب الخارجية، بل حضور حي في وجدان الأساتذة والطلاب. إنها ليست قضية سياسية فحسب، بل اختبار يومي للموقف والكرامة. وهكذا، لم يكن المنتدى السوسيولوجي حدثا أكاديميا فقط، بل لحظة عربية بامتياز، قالت فيها الجامعة لا: لا لإسرائيل، لا للتطبيع المعرفي، لا لتدجين الضمير تحت شعار التعاون العلمي.
في لحظة من لحظات التاريخ الخفي، الذي لا يدون في بيانات رسمية ولا يظهر في بلاغات الصحافة العاجلة، وقفت الجامعة المغربية في وجه مسار لا يراد له أن يواجه. وقفت لتقول شيئا بسيطا، لكنه عميق: إن الفكرة لا يمكن أن تنفصل عن المبدأ، وإن الحياد في وجه جريمة مستمرة ليس حيادا، بل تورط. كان بإمكان منظمي المنتدى أن يمرروا المشاركة الإسرائيلية كما تمرر أشياء كثيرة، وكان بالإمكان أن يغلق الباب على الاحتجاجات، ويقال إن العلم لا وطن له… لكن في قاعات الرباط، كان هناك من قرر أن للعلم ضميرا، وأن الجامعة لا يمكن أن تكون مسرحا لتبييض الجرائم.
ومن المفارقات التي لا تخطئها عين، أن موقف المقاطعة لم يأت من خارج الحدث، بل من داخله: من باحثين مغاربة وعرب ودوليين، بعضهم كان ضيفا رسميا، وبعضهم في صلب إدارة البرنامج العلمي. وكان جميعهم يدركون أنهم يخسرون حضورهم الأكاديمي المؤسسي حين ينسحبون، لكنهم كانوا يدركون أيضا أن بقاءهم سيكون خيانة لشيء لا يشترى: الكرامة. وهنا يتجلى جوهر هذا الموقف، الذي جعله حدثا سياسيا من طراز خاص: إذ لم يكن نابعا من موقف أيديولوجي مسبق، بل من إحساس نقي بأن المشاركة، في ظل استمرار القصف والحصار والقتل، هي شكل آخر من أشكال التواطؤ.
لقد كانت إسرائيل تراهن على أمرين: أن الزمن نسي القضية، وأن القاعات الأكاديمية أكثر ليونة من الشوارع. لكنها فوجئت بأن الشارع دخل إلى القاعة، وأن الأصوات التي كانت تخرج من حناجر الغاضبين في المسيرات، خرجت هذه المرة من أفواه أساتذة جامعيين، ومن بيانات مؤسسات بحثية، ومن مقالات نشرت في الدوريات العلمية نفسها. وهكذا، تحولت قاعات المنتدى إلى ما يشبه الجبهة الفكرية، حيث لم تعد المواجهة بين أوراق العمل، بل بين رؤيتين للعالم: رؤية تعتبر الاحتلال مسألة قابلة للنقاش، وأخرى تراه خطا أحمر لا يمكن ملامسته دون أن تصاب الجامعة نفسها بتشوه أخلاقي.
ولأن اللحظة كانت لحظة مفترق، فإن كل الأطراف وجدت نفسها في موقع الامتحان: الجمعية الدولية للعلوم الاجتماعية أمام اختبار صدقيتها، والجامعة المغربية أمام اختبار استقلالها، والحكومة المغربية أمام اختبار صمتها. أما الجمهور، فقد كان حاضرا بقوة، لا في البيانات والنداءات فقط، بل في الحضور الرمزي الذي فرضه موقف شعبي واضح من التطبيع. وقد ظهر أن ما عجزت السياسة عن حسمه، استطاعت قاعات العلم أن توضحه بجلاء: أن المعركة ليست بين دول، بل بين خيارات قيمية، وأن كل موقف يتأخر، يمنح الاحتلال يوما إضافيا في ذاكرة القبول.
كان بإمكان المغرب أن يمرر المسألة كما مررت دول أخرى صفقات مماثلة تحت عناوين التنمية أو التعاون، لكنه وجد نفسه، بفضل هذا الوعي الجماعي، في قلب معركة رمزية كبرى. وقد اتضح أن القضية الفلسطينية لم تغب عن وجدان الشعب، حتى وإن تغيرت لغات الأنظمة. وأن الجامعة، التي طالما اعتبرت ملاذا للنخبة المعزولة، أصبحت هذه المرة منصة الشعب، ولسان حاله، ودرعه الرمزي. وهذا بالذات ما يخيف الاحتلال: أن يفقد فرصة التسلل الهادئ، لا بالسلاح، بل بالشرعية. وأن يجد في كل قاعة أستاذا، وفي كل صف طالبا، يقول له: أنت لست موضع ترحيب، لأنك لا تنتمي إلى منظومة العلم، بل إلى منظومة القتل.
في السياسة، تمر لحظات أمام العيون فلا تلتقط، وأخرى تراها القلوب قبل أن تدركها العقول. وما جرى في المنتدى العالمي للسوسيولوجيا بالرباط ينتمي إلى هذا النوع الثاني: لم يكن مجرد موقف احتجاجي، بل كان انبعاثا مكثفا لذاكرة شعبية تعلن أن فلسطين ليست قضية موسمية تستحضر في الأزمات وتنسى عند المصالح، بل هي مقياس توزن به صدقية المواقف وشرعية الاختيارات. وكان واضحا أن المعركة، هذه المرة، لم تكن محصورة في سؤال: من يشارك؟، بل في سؤال: ما الذي يترتب على السماح له بالمشاركة؟، وهل يجوز أن يعامل الاحتلال كجنسية عادية أو كمؤسسة أكاديمية حيادية؟
في هذا السياق، ظهرت ملامح مدرسة فكرية جديدة تتشكل في المغرب، وربما في العالم العربي بأسره: مدرسة ترفض الفصل بين السياسة والبحث الأكاديمي، بين القيم والمعرفة، بين الضمير والوظيفة. مدرسة لا تتحدث بلغة الأيديولوجيا الجاهزة، بل تنطق بلغة الموقف الأخلاقي الملموس. لم تحتج لأنها تكره إسرائيل فقط، بل لأنها تؤمن بأن الجامعة التي تعلم الناس أن يكونوا أحرارا لا يمكن أن تفتح أبوابها لممثلي القتل والاحتلال، ثم تصفق لهم وهم يتحدثون عن السلام الاجتماعي والتنمية والهوية الثقافية. كان المشهد مهينا، وكان الرد من الرباط على مستوى الحدث.
لقد خرجت الجامعة من حيادها، لكنها لم تتخل عن رصانتها. رفضت المشاركة الإسرائيلية، لكنها لم تسقط في فخ الشعارات. احتجت بمقالات علمية، ومواقف موثقة، وانسحابات محسوبة، وحملة أكاديمية تحترم الأعراف الدولية، وتستند إلى مبادئ أصيلة في أدبيات حقوق الإنسان. وذلك هو الانتصار الحقيقي: أن يواجه الاحتلال لا بالغضب وحده، بل بالمنطق والعقل، وبسلطة المعرفة، إلى درجة تجعل من في الجمعية الدولية للسوسيولوجيا يدرك أن السكوت عن المشاركة الإسرائيلية لم يعد خيارا نزيها، ولا سبيلا آمنا.
أما إسرائيل، فقد فهمت الرسالة. أدركت أن التطبيع الثقافي أصعب بكثير من نظيره السياسي، وأن الرأي العام المغربي، حتى حين تقيّد آفاقه رسميا، يملك أدواته التي يصعب اختراقها. فهمت أن الجامعة ليست وزارة، وأن القاعة ليست مكتب تمثيل دبلوماسي، وأن السوسيولوجيا، بما هي دراسة للبنى الاجتماعية والأنظمة الرمزية، يمكن أن تصبح سلاحا رمزيا للمقاومة، حين تخرج من صفحات الكتب إلى فضاء الموقف، ومن النظريات إلى الناس.
وهكذا، من قاعات الرباط، خرج موقف يتجاوز حجمه الظاهر. لم يكن رفضا لوفد فقط، بل كان رسما لخط أحمر في وجه التطبيع المعرفي. لم يكن إحراجا للجنة تنظيم فقط، بل تنبيها إلى أن الجامعات هي آخر حصون الأمة حين تسقط السياسة، ويتراجع الإعلام، وتغيب النقابات. إنه موقف لا يقاس بعدد المقالات، بل بعمق أثره الرمزي. وحين تسجل هذه اللحظة في دفاتر المستقبل، لن تعنون بمنتدى علم الاجتماع، بل بـعنوان أوسع: “حين قالت الجامعة لا… وسمعها العالم.”
* كاتب وأكاديمي مغربي

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

عبدالقادر هلال : رجل ترك بصمة في قلب صنعاء

  بقلم / عادل حويس في كل عام عندما يحل الثاني عشر من ديسمبر تلتقط …