د.حسن مرهج*
ما قاله الجولاني في خطابه الأخير ليس “زلة تراثية”، ولا تدينًا فائضًا تسرب من خطيبٍ ارتبك أمام الحشد، حيث كان إعلانًا سياسيًا كاملًا، مفاده أن السلطة في سوريا انتقلت إلى ديكتاتور يطلب أن نصدّق أن الشرعية تسقط عليه من السماء. هذا الإعلان لم يكن عفويًا؛ إنه امتداد لاستراتيجية مدروسة تبني الشرعية على مزيج من الدين والأمن، مستلهمة من تاريخ السلطات الشرق أوسطية التي نجحت في إعادة إنتاج نفسها عبر تغيير الرموز دون لمس الجوهر.نحن أمام إعادة تدوير منظومة قديمة، الحاكم الذي لا يناقَش، والناس الذين يُطلب منهم الانقياد، والدين الذي يُستحضر كدرع أخير حين تنعدم أسس الشرعية على الأرض، وكأن قرنًا من سقوط السلطنة العثمانية، ونشوء الجمهوريات العربية، وثورات الشعوب وحروبها، لم يغيّر شيئًا في البنية العميقة التي تصوغ علاقتنا بالسلطة. في سوريا تحديدًا، يعود هذا النمط إلى جذور تاريخية من العهد العثماني الذي اعتمد على الولاة كممثلين إلهيين، مرورًا بحافظ الأسد الذي حوّل الجيش إلى حارس الثورة الشرعية، وصولاً إلى الجولاني الذي يستبدل الدبابات بالآيات.
منذ أن ظهر الجولاني في ثوب الرئيس، لم يقل مرة واحدة إنه يقبل أن يكون موظفًا عامًا يخضع للمساءلة، تحدّث دائمًا بضمير المتكلّم، أنا أضمن، أنا أقرر، أنا أعيّن، وأنا أراقب. أما المؤسسات، فمجرد ديكور يحرس القرار الواحد. هذه اللغة ليست صدفة؛ إنها تذكير بـ وحدة اللون التي روّج له الجولاني كضرورة أمنية شرعية، نحن لا نعود إلى دولة الشريعة فحسب، بل إلى نظام المالك الذي يغيّر جلده الديني كما يشاء ويحتفظ بجوهر السلطة كما ورثه الطغاة من قبله، سلطة فوق القانون، وفوق المجتمع، وفوق العالم.
في السياق السوري، يعكس هذا الانتقال تحول هيئة تحرير الشام من تنظيم جهادي إلى هيئة حاكمة. الجولاني، الذي بنى إمبراطوريته على القتال والتكفير، يعيد صياغة نفسه كـ قائد شرعي يستمد صلاحياته من تفسير ديني يتجاوز الدستور. هذا ليس تطورًا؛ إنه تكتيك ناجح في تاريخ الإسلام السياسي، كما في حالة الإخوان المسلمين في مصر أو طالبان في أفغانستان، حيث يُقدَّم الحاكم كـ نائب الله ليعفى من المساءلة الديمقراطية.
في إدلب ومناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، يظهر الاستقبال الشعبي كمزيج من الإرهاق والأمل والإرهاق من الحرب يجعل الطاعة خيارًا أقل تكلفة، والأمل في الاستقرار الإسلامي يُغطّي على غياب المؤسسات. استطلاعات غير رسمية وتقارير منظمات حقوقية تشير إلى أن نسبة كبيرة من السكان تفضل “القائد القوي” على الفوضى، مما يعزز من قدرة الجولاني على فرض نموذجه دون مقاومة فورية.
الحياة الحديثة لها معيار آخر إذ لا يهم إن كان الحاكم يقرأ ساعة قبل الفجر أو لا يعرف الفرق بين السورة والصفحة. ما يهم الناس قدرة السلطة على بناء مدرسة، لا مسجدًا؛ على فتح معمل، لا فتح ديوان شرعي، على ضمان العدل، لا استدعاء الغيب. الناس يريدون دولة، لا شيخًا متصدرًا المشهد، ولا قائدًا يستمد صلاحياته من نصّ سماوي أو من نصّ أمني. في سوريا اليوم، حيث يعاني 90% من السكان من الفقر وذلك وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، يصبح التركيز على الشريعة تشتيتًا عن الانهيار الاقتصادي والخدمي.
الجولاني لا يعرف شيئًا عن تاريخ هذه البلاد، السلطة حين تُقدّم نفسها على أنها هدية إلهية، لا تحتاج بعد ذلك إلى إقناع أحد. يكفي فقط أن يعتاد الناس على الانصياع، كما حدث في إيران بعد الثورة أو في السعودية قبل الإصلاحات. لذلك فالمسألة ليست في جملة عابرة، بل في مشروع كامل هو إحياء نظام الطاعة في بلد دفع أثمانًا خرافية لينجو منه. الخطر الحقيقي هو أن يصبح هذا النظام الجديد نظاماً إسلامياً يحكم بإسم الدين، محولاً ثورة 2011 إلى مجرد تغيير واجهة.
*كاتب وأكاديمي ومحاضر وخبير الشؤون السورية والشرق أوسطية.
اليمن الحر الأخباري لسان حال حزب اليمن الحر ورابطه ابناء اليمن الحر