د.طارق ليساوي*
تابعنا جميعا بيان شيخ الأزهر الذي أدان فيه التجويع و الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة، وجاء في البيان الذي تم حذفه بعد فترة قصيرة من نشره : “يؤكد الأزهر الشريف بشدة أن التجويع المتعمد والقاتل الذي يفرضه هذا الاحتلال البغيض على أهل غزة الآمنين، الباحثين عن فتات خبز أو كوب ماء، وفي الوقت نفسه استهداف ملاجئ النازحين ومراكز توزيع المساعدات الإنسانية بالذخيرة الحية، يُعد جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان”.. وأضاف بأن ” كل من يزود هذا الكيان بالسلاح، أو يشجعه بقرارات متواطئة أو بتصريحات منافقة، هو شريك في هذه الإبادة الجماعية” كما أعلن الأزهر الشريف في بيانه المحذوف” رفضه القاطع للصمت العالمي المُشين والمُريب، وللتقاعس المُشين للمجتمع الدولي عن نصرة هذا الشعب الأعزل، ولأي دعوة لتهجير أهل غزة من أرضهم”…
بيان الحد الأدنى
و توضيحا لأسباب حذف البيان قال الأزهر: “تابع المركز الإعلامي للأزهر الشريف ما أثير من تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي بشأن بيان الأزهر الشريف المتعلق بالأوضاع في غزة، موضحا أن هذا القرار جاء انطلاقا من المسؤولية التي يتحملها الأزهر الشريف أمام الله عز وجل تجاه قضايا أمتينا العربية والإسلامية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية ونصرة أهل غزة المستضعفين”. و أضاف أن الأزهر الشريف سحب بيانه “بكل شجاعة ومسؤولية أمام الله حين أدرك أن هذا البيان قد يؤثر على المفاوضات الجارية بشأن إقرار هدنة إنسانية في غزة لإنقاذ الأبرياء، وحتى لا يتخذ من هذا البيان ذريعة للتراجع عن التفاوض أو المساومة فيها”.
و الواقع أن ما جاء في البيان هو أقل من الحد الأدنى المطلوب من مؤسسة بحجم الأزهر، فمن الواجب أن يكون له دور أكبر بالنظر لمكانة الأزهر و دوره التاريخي الحافل في نصرة قضايا الأمة الإسلامية..
إدانة دولية للتجويع
إدانة جرائم الاحتلال و سلاح التجويع أصبحت تصدر عن دول أوربية مشهورة بدعهما و تحالفها مع الصهاينة كبريطانيا بفرنسا و ألمانيا و غيرها من دول الإتحاد الأروبي ، هذا فضلا عن مواقف بلدان أمريكا اللاتينية و البلدان الإفريقية و الأسيوية، فأغلب دول العالم أصبحت تعبر عن رفضها و إدانتها للتجويع .. و للأسف في بلداننا العربية حتى هذه الإدانات أصبحت من الطابوهات و المحرمات..
دور العلماء
نعيش مرحلة تصحر شديد و سطوة السلطة على المجتمع و قياداته العلمية و الطبيعية ، فعبر تاريخنا الطويل لعب العلماء دور سامق و محوري عند الفتن والمحن، وبرزت أدوارهم من خلال تعبئة عموم المسلمين، وحثّ المجاهدين على الرباط والثبات في الميدان، والصدع بكلمة الحقّ أمام الحاكم والسلطان وتوجيهه وتصويب مساره نصرة للإسلام في الحروب التي خاضتها الأمة، من: حرب الصليبيين، وهجوم التتار و حروب التحرر من نير الاحتلال الغربي لبلاد المسلمين وصولا إلى دور العلماء في تعبئة روح المقاومة في أفغانستان و العراق و فلسطين … فالعلماء الربّانيّون هم العاملون بكتاب ربهم وسنّة نبيهم صلّى الله عليه وسلم، المستوعبون لواقعهم.
سلطان العلماء
و هنا تحضرني مقولة لسلطان العلماء وبائع الأمراء، الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله عندما قال : ” من نزل بأرض تفشى فيها الزنى فحدث الناس عن حرمة الربا فقد خان، ” وهذا يعني ان على المسلم ان لا يتخلى عن هموم امته خوفا او طمعا و يتنكر لاحتياجاتها و يتجاهل ماسيها و ألامها ، والا فهو خائن للأمانة التي أوكلت اليه ويعتبر كاتما للعلم وغادرا لأمته، قال تعالى في محكم كتابه : ( وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة-42).و في هذا السلوك إضاعة للطاقة و الجهد في غير محلة ، و تضليل والهاء عامة الناس عن قضاياهم الأساسية..
فما أحوج الأمة اليوم لعلماء من طينة العز بن عبد السلام ، و أنا أستمع بالأمس 25-07-2025 لخطبة الجمعة ، هاجمتني خاطرة و مضمونها ماذا لو وقف في هذه الأثناء نبي الرحمة المهداة للعالمين على منبره الشريف ، هل كان عليه الصلاة و السلام ليتجاهل دماء إخوة في العقيدة و العروبة و الإنسانية، ينحرون من الوريد إلى الوريد و يجوعون و تسفك دمائهم بالليل و النهار طيلة 628 يوم؟ ماذا لو كان الصديق أو الفاروق أو ذو النورين أو علي كرم الله وجهه رضي الله عنهم جيمعا يخطب أحدهم على المنبر ؟ هل كان موضوع الخطبة سيبتعد عن دماء غزة ؟! ..
فتوى شهيرة
و قد اشتهر العز بن عبدالسلام بمواقفه العظيمة أمام حكام عصره، فعندما حالف حاكم دمشق “الصالح إسماعيل بن الكامل” سنة 638هـ الصليبيين، لينجدوه من أخيه “نجم الدين أيوب” سلطان مصر ، وسلّم إليهم لقاء ذلك صيدا والشقيف وصفد وغير ذلك من حصون المسلمين، وذلك ، كما أذن إسماعيل للصليبيين بدخول دمشق لشراء السلاح لقتال المسلمين فى مصر..و تجاه هذا الموقف غضب العز بن عبدالسلام، فأفتى بحرمة بيع السلاح للصليبيين قائلاً: “يَحْرم عليكم مبايعتهم، لأنكم تتحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين”، ثم صعد منبر المسجد الأموى الكبير، وذمَّ موالاة الأعداء، وقبّح الخيانة، وشنّع على السلطان، وقطع الدعاء له بالخطبة، وصار يدعو أمام الجماهير بخلع السلطان واستبداله، ويقول: «اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رَشَداً، تُعِزّ فيه وليَّك، وتُذِلُّ فيه عدوَّك، ويُعمَل فيه بطاعتك، ويُنهى فيه عن معصيتك”، والناس يبتهلون بالتأمين والدعاء للمسلمين، والنصر على الأعداء، فأمر الحاكم بعزله واعتقاله، ثم رأى أن يستميله فأرسل إليه رسولاً يقول له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وزيادة، أن تنكسر للسلطان وتُقَبِّل يده!. فقال الشيخ: “والله ما أرضاه أن يقبّل يدى، فضلاً عن أن أقبّل يده، يا قوم أنتم فى واد، وأنا فى واد، والحمد لله الذى عافانى مما ابتلاكم به»، فقال رسول الملك: قد رُسِمَ لى أن توافق على ما يُطْلَبُ منك، وإلا اعتقلتك! فقال الشيخ: “افعلوا ما بدا لكم”.
واجب الوقت
و لا أخفيك أيها القارئ الكريم، و أنا أتابع المجازر التي يرتكبها الصهاينة في غزة، و مشاهد التجويع للأطفال و النساء، أشعر بأن الله عز و جل سيسلط علينا غضبه ، و أنه تعالى في غير حاجة لصلاتنا و لا صيامنا و لاقيامنا، لأن الأهم من كل هذا هو قول كلمة الحق و نصرة المستضعفين من إخواننا ..فجباهنا ينبغي أن تتوجه صوب غزة ، و قيامنا ينبغي أن يكون في الشوارع نصرة لغزة ، واجب الوقت يقتضي التظاهر ليل نهار و بكثافة من أجل الضغط على النظم الخائنة و المتعاونة و الخائفة ، لتغيير موقفها و فتح المجال لتقديم ما يلزم من دعم لإخواننا في غزة، موائد إفطارنا ينبغي أن تكون متواضعة جدا و أن يتجه القسط الأهم منها لتوفير إحتياجات غزة ..و أموالنا لا ينبغي ان تتجه لحسابات السعودية من أجل العمرة ، و إنما توجه لأهلنا في غزة لتعزيز صمودهم ..
الحكم بالرعب
لكن نحن نعيش حالة من الوهن الشديد، و علينا الإقرار أيضا أن النظم في بلداننا نجحت في سياسة تكميم الأفواه و الحكم بالرعب و الخوف و الترهيب، فكثير من العلماء الربانيين في السجون أو النفي، و الأقلام الحرة يتم كسرها و التضييق عليها بشتى السبل الممكنة، و التعليم غايته الأساسية إعداد و نحث أجيال جاهلة تافهة سطحية التفكير ، ضعيفة الإرادة منعدمة الهمة..أما الإعلام فحكايته حكاية، غايته تضبيع الجمهور و تضليله ..
سقوط الأندلس
ما تعيشه الأمة يذكرني بحقبة تاريخية سوداء في تاريخ الأمة الإسلامية و أعني تحديدا سقوط الأندلس ، لكن الأهم من السقوط الأسباب التي قادت إلى الكارثة، ففي سنة 442 ه أعلن الوزير أبو الحزم بن جهور عن سقوط الدولة الأموية في الأندلس، و هو الأمر الذي ترتب عنه نشأت حوالي 22 دويلة صغيرة ،على رأس كل منها أمير من أمراء الأندلس، و التأسيس لأسر حاكمة تتوارث الحكم في كل إمارة..وقد استفادت هذه الإمارات الناشئة من ثراء الخلافة الأموية ، إلا أن عدم استقرار الحكم و الصراع المستمر بينها، جعلهم جميعا فريسة لمسيحي الشمال، و هو ما جعل ملوك الطوائف يدفعون الجزية صاغرين للملك “الفونسو السادس” و يتحالفون معه ضدا على إخوتهم في الدين والوطن..وها هي الأمة اليوم تُبتلى بحكام هم أشدّ كيدًا للإسلام من أعدائه لا يشغلهم إلا أنفسهم، فرّطوا بالأرض وتنازلوا عن الحقوق من أجل كراسيهم، يجوع ويموت إخوة لهم في غزة بينما هم جزء من الحصار والظلم الواقع على أهل غزة والمجازر التي تُرتكب بحقهم ..
إبادة مكتملة الأركان
كل الشواهد و القصاصات الإخبارية تقول أن أهل غزة يعانون من الجوع و العطش هذا فضل عن التقتيل ، صمتنا عن الإبادة الجذرية مشاركة في الجريمة ، اللهم من جوّع أطفال غزة فجوّعه ومن عطّشهم فعطّشه واجعله ممن يقول وهو في النار :(وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) ( الأعراف -50) ، واجعله ممن يصيبه دعاء النبي ﷺ لما قال: “اللهم من وليّ من أمر أمتي شيئًا فشقّ عليهم فأشقق عليه”..
ما يحدث في المنطقة العربية ليس مجرد قضية أمنية، بل هو جزء من معركة وعي أكبر. معركة تحاول فيها الصهيونية أن تفرض روايتها على الجميع، وأن تُسكت كل الأصوات الحرة التي ترفض الاحتلال والتطبيع. وهي معركة علينا أن ننتبه لها جيدًا، لأن نتائجها لا تتوقف عند جماعة أو أفراد، بل تمس مستقبل الأمة، وحقها في مقاومة الظلم والاحتلال.
لن يكون منصفًا ولا مقبولًا أن يُجرَّم الأحرار وتُدان المقاومة، بينما يُفتح الباب على مصراعيه لتبرير التطبيع وتجميل المحتل، وما أُخذ من كرامة الشعوب بالظلم والتضليل لن يُستعاد إلا بالوعي والتضامن وكشف الحقيقة…
سياق مضطرب
و في هذا السياق العام المضطرب ، أستحضر مقولة للشيخ محمد الغزالي رحمه الله يقول فيها : ” إن زوال إسرائيل قد يسبقه زوال أنظمة عربية عاشت تضحك على شعوبها، ودمار مجتمعات عربية فرضت على نفسها الوهم والوهن، قبل أن يستذلها العم أو الخال، وقبل أن ينال من شرفها غريب : ” إنه لا شيء ينال من مناعة البلاد، وينتقص من قدرتها على المقاومة الرائعة، كفساد النفوس والأوضاع، وضياع مظاهر العدالة، واختلال موازين الاقتصاد، وانقسام الشعب إلى طوائف، أكثرها مُضيع منهوك، وأقلها يمرح في نعيم الملوك..”..و إني على يقين بأن مأساة غزة و طوفانها العظيم سيقود حتما لإنتفاضات شعبية ستشمل معظم البلدان العربية .. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون…
*كاتب و أكاديمي مغربي
اليمن الحر الأخباري لسان حال حزب اليمن الحر ورابطه ابناء اليمن الحر