بروفيسور. عوض سليمية*
تميزت الفترة الرئاسية الاولى للرئيس ترامب (2017-2021) بتوترات كبيرة في العلاقة مع طهران، دشنها ترامب بالانسحاب الاحادي من اتفاقية “العمل الشاملة المشتركة الخاصة بالملف النووي”- المُوقعة في عهد الرئيس اوباما، بعد ان وصفها بالاتفاقية “المُعيبة”. كما أصدر تعليماته بإعادة فرض الحصار وتفعيل العقوبات على طهران؛ وكانت الوثيقة الأمريكية خلال تلك الفترة قد وصفت النظام الإيراني في أكثر من موضع بأنه “نظام ديكتاتوري” و”دولة مارقة” تسعى للتوسع الإقليمي على حساب استقرار وأمن الدول المجاورة. كما اتهمت إيران بمحاولات مستمرة “لزعزعة الأمن والاستقرار” و”تهديد حلفاء الولايات المتحدة” في منطقة الشرق الأوسط.
تناولت وثيقة الأمن القومي لعام 2017 بشكل مكثف – في 17 موضع، النشاطات “الخبيثة” لطهران، ووصفتها “بالدولة الرائدة عالمياً في رعاية الارهاب”؛ كما تضمنت الوثيقة اتهامات لقادة طهران بالتعاون مع “منظمات ارهابية”، للعمل ضد المصالح الامريكية؛ وذلك بهدف ضمان استدامة دوامة “العنف” في منطقة الشرق الاوسط، وذكرت الاستراتيجية حزب الله- اللبناني كمثال. بالإضافة الى ذلك، اشارت الوثيقة الى مساعي قادة طهران لتطوير برنامج صاروخي بعيد المدى، الى جانب السعي الحثيث لتطوير قدراتهم النووية والتي تشكل “تهديداً” للولايات المتحدة وحلفائها. وخلصت الوثيقة إلى أن التهديدات الإيرانية هي السبب الرئيسي لغياب السلام وحالة عدم الاستقرار في المنطقة، متجاوزةً بذلك الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني كعامل رئيسي للوضع السائد.بالمقابل، اشارت استراتيجية الامن القومي -2025؛ انه وعلى الرغم من استمرار ارتفاع ديناميكية النزاع ومخاطره في الشرق الاوسط، الا انها ليست بالحدة التي توحي بها عناوين الاخبار، وتعزو الوثيقة هذا التقييم الى عدة اسباب، من بينها حالة الضعف الذي تعاني منها طهران بعد حرب الــ 12 يوماً مع اسرائيل، وعملية “مطرقة منتصف الليل” التي امر ترامب بتنفيذها، في اشارة الى الهجوم الامريكي بالقاذفات على المنشآت النووية الايرانية فجر 22 يونيو/حزيران 2025.
في الواقع، كشفت الوثيقة الجديدة عن تحولاً جديداً في السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه العديد من القضايا في العالم، كما اظهرت تراجعاً في مستوى الاهتمام بقضايا الشرق الاوسط. ولم تكن ديناميكية التعامل مع طهران استثناءً. في هذا السياق، اشارت الاستراتيجية الى ما يمكن تسميته الانتقال من سياسة “التصعيد المُتعمد” التي اتسمت بها فترة ترامب الاولى؛ الى نهج أكثر حذراً يتمثل في “إعادة التموضع الحذر” المقرون باستخدام القوة العسكرية “المُقيدة او المحدودة” في حال استدعت الضرورة، وهذا يشمل أذرع طهران العسكرية في المنطقة. وعلى الرغم من عدم إظهار نوايا حسنة لاحتمالية إجراء مراجعات لاستراتيجية “الضغط الاقصى” والتي تضمنت العزل السياسي وتشديد العقوبات الاقتصادية لمنع إيران من استعادة نفوذها أو قدراتها، إلا ان إدارة ترامب ابقت للدبلوماسيين ممراً نحو طاولة المفاوضات.
بالنظر إلى الطبيعة الانفعالية وغير المتوقعة التي تميز سلوك ترامب في اتخاذ القرارات، يبدو ان الممر الامن نحو المفاوضات قد يكون خطوة تكتيكية مؤقته أكثر منها استراتيجية طويلة الامد، هذه الخطوة ربما توفر لإيران فرصة او هامش مرن للذهاب نحو المفاوضات لتجنب التصعيد. لكن عند التدقيق في المواقف الاسرائيلية التصعيدية، فإن هذا الممر يبدو انه لن يستمر للأبد وربما ينهار سريعاً بمجرد ان يتمكن نتنياهو من إقناع مستشاري ترامب المقربين ان “مطرقة منتصف الليل” لم تحقق الاهداف المرجوة وان تكتيكات ترامب المؤقتة تسير في مسار خاطئ، وبالتالي ينجح نتنياهو مرة اخرى في تكرار ما حدث عند الغاء اتفاقية العمل الشاملة المشتركة من جانب ترامب.
في اول رد ايراني رسمي على الوثيقة، نددت وزارة الخارجية الإيرانية بالجزء المتعلق بالشرق الأوسط في الاستراتيجية، ووصفها المتحدث باسم الوزارة باقائي بأنها “وثيقة أمن قومي إسرائيلية”، متهماً البيت الابيض بمواصلة “السعي لتحقيق نفس أهداف الإدارات الأمريكية السابقة”؛ المتمثلة في “فرض الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة”.
واشنطن من جانبها ما تزال مُتشككة في نوايا طهران، ولم تُسقط من استراتيجيتها اهمية الشرق الاوسط بشكل كامل، وحددت نقاطًا رئيسية تُعتبر خطوطًا حمراء لأي تصعيد محتمل في المنطقة. من ناحية، وفي اشارة تحذيرية مباشرة لطهران بوجوب عدم اتخاذ اية إجراءات من شأنها إعاقة تدفق امدادات الطاقة الخليجية عبر إغلاق مضيق هرمز “أن يظل مضيق هرمز مفتوحاً”، او التورط في دعم اية انشطة تساهم في إغلاق البحر الاحمر امام ناقلات الطاقة “وأن يظل البحر الأحمر صالحاً للملاحة”، حظر تقديم أي شكل من اشكال المساعدة المؤدية الى احتجاز ناقلات النفط او تغيير مسارها “ضمان عدم وقوع إمدادات الطاقة الخليجية في أيدي عدو مباشر”. من ناحية اخرى، شددت الوثيقة على ضرورة “حماية أمن إسرائيل” ومصالحها الإقليمية. وبغير ذلك، فإن من شأن أي اختراق لهذه المحددات سيُعتبر مبررًا لاتخاذ إجراءات عسكرية لتسوية الوضع؛ وأوضحت الوثيقة أن مواجهة التهديدات يجب أن تكون على الصعيدين “الأيديولوجي والعسكري”.
في سياق متصل، يبدو ان التقارب السعودي الايراني الحذر الذي رعته بكين عام 2023؛ ما زال قائماً، ونجح في تجاوز مرحلة اختبار عصيبة خلال حرب الــ 12 يوم. بفعل استمرار جلسات الحوار بين الطرفين والتي كان اخرها الاجتماع الثلاثي في طهران يوم 9 من هذا الشهر. وكانت الرياض من اولى الدول التي اعلنت موقفها الرافض للعدوان الاسرائيلي على إيران، واعتبرته “انتهاكاً للقوانين الدولية”. هذا التقارب، إلى جانب ما يعتبره ترامب حالة ضعف إيراني، قد يكون من بين العوامل التي دفعت الإدارة الجمهورية إلى مراجعة تصنيف إيران السابق كدولة تشكل “تهديداً” كبيراً للمصالح الأمريكية، وخفضه إلى تصنيف أقل تهديداً أو سطحياً.
بالرغم من الجهود الدبلوماسية المبذولة لخفض التوتر وتعزيز الثقة بين دول الجوار، الا ان الاصوات المتشككة ما زالت حاضرة، حيث سارع مشرعو طهران للتنديد ببيان مجلس التعاون الخليجي الذي عقد مؤخراً في البحرين، عندما طالب البيان بوجوب انسحاب إيران من الجزر الاماراتية الثلاث-طنب الكبرى والصغرى وجزيرة ابو موسى، التي تحتلها إيران منذ عقود. ووصف رئيس البرلمان الايراني قاليباف موقف دول مجلس التعاون الخليجي بـأنه “ادعاءات لا أساس لها من الصحة وسخيفة تشجعها أطراف خارجية”؛ وفقاً لموقع Iran International. الرسائل السلبية واستمرار العيش بالماضي ظهرت ايضاً في حديث جواد ظريف -وزير الخارجية الايراني السابق ومستشار الرئيس الايراني الحالي بيزشكيان، في منتدى الدوحة الذي عقد قبل ايام، حيث اظهر دفاعاً قوياً عن مواقف إيران السابقة؛ بما فيها الحرب على العراق مشيراً الى ان بلاده لم تطلب من دول الخليج تعويضات مالية عن موقفها الداعم للعراق في حرب الثماني سنوات 1980-1988.
استراتيجية ترامب للأمن القومي 2025، لم تركز بشكل كبير على إيران على عكس الاستراتيجية القديمة 2017، وهذا مُبرر استراتيجياً بالنظر لازدحام جدول اعمال ترامب في مناطق أكثر سخونة في العالم. ومع ذلك، يُمكن القول إن التموضع الأمريكي الحالي تجاه طهران ليس بالضرورة تحولاً جذرياً طويل المدى، بل يمكن وصفها باستراتيجية مرنة ذات طابع انتقالي، تُوازن بين ضبط السلوك الإيراني واحتواء النفوذ للحيلولة دون تجدد مواجهة مباشرة. إلا أن مدى استمرار هذا النهج الترامبي سيعتمد على عدة عوامل، أبرزها تطور العلاقات بين ايران وجيرانها وسلوكها في المنطقة بشكل عام، مسار تطور البرنامج النووي ونتائج المفاوضات المتوقع استئنافها، الى جانب مدى نجاح الضغوط الداخلية على مراكز صنع القرار الامريكي الناجمة عن لوبيات الضغط وجماعات المصالح المؤيدة لاسرائيل في واشنطن، وهي العامل المُحدد لمستقبل استراتيجية ترامب -2025 تجاه إيران والمنطقة بشكل عام.
*كاتب وباحث في العلاقات الدولية
اليمن الحر الأخباري لسان حال حزب اليمن الحر ورابطه ابناء اليمن الحر