السبت , ديسمبر 13 2025
الرئيسية / اراء / موضة الاعتراف بدولة فلسطين!

موضة الاعتراف بدولة فلسطين!

د. طالب أبو شرار*
ليس غريبا ما نشاهده هذه الأيام من تدافع العديد من الدول الغربية نحو منصة الإعلان عن نيَاتِهم الاعتراف ب “دولة” فلسطين في دورة الجمعية العمومية للأمم المتحدة التي ستنعقد في نيويورك في الثالث عشر من أيلول القادم. فبالإضافة الى عشر دول من مجموعة العشرين (الأرجنتين، البرازيل، الصين، الهند، إندونيسيا، المكسيك، روسيا، السعودية، جنوب إفريقيا، تركيا) والتي اعترفت مسبقا بفلسطين كدولة، وقّعت خمس عشرة دولة إعلانًا أعربت فيه عن استعدادها الاعتراف ب “دولة” فلسطين في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة المشار اليها أعلاه. جاء إعلان تلك الدول في أعقاب المؤتمر الفرنسي السعودي الذي اختتم أعماله في نيويورك يوم 29/7/2025. وحسب تلك الدول، فإن هذه خطوةً أساسيةً على طريق حل الدولتين وناشدت جميع الدول التي لم تعترف بعدُ ب “دولة” فلسطين إلى الانضمام إلى هذه الدعوة.
الغريب في هذه المناشدة أنها تأتي من دول تآمر بعضها على فلسطين وشعبها وهي بذلك على دراية بأدق تفاصيل المأساة الفلسطينية. لماذا إذن تتزاحم تلك الدول على المشاركة في المهرجان الكلامي “نصرة” لفلسطين؟ من بين تلك الدول هناك تسع دول جديدة أعلنت عزمها الاعتراف بفلسطين وهي (أندورا، وأستراليا، وكندا، وفنلندا، ولوكسمبورغ، ومالطا، ونيوزيلندا، والبرتغال، وسان مارينو). المثير في هذه الحالة “الموضة” أن رئيس وزراء بريطانيا، كير ستارمر، أعلن بنفسه عن نية بلاده الاعتراف ب “دولة” فلسطين. جاء ذاك الإعلان بُعيد إعلان وزير خارجيته، ديفيد لامي عن عزم بريطانيا الاعتراف ب “دولة” فلسطين وهو موقف يشترط عدم وقف إطلاق النار في غزة. لكن، وفي حالة انهاء المذبحة بحق الفلسطينيين وإعلان “إسرائيل” توقفها عن إجراءات ضم الضفة الغربية والتزامها بعملية سلام طويلة الأمد تُفضي إلى حل الدولتين فلن يكون هناك اعتراف ب “دولة” فلسطين! معنى ذلك أن الفلسطينيين ليسوا بحاجة الى دولة أن أوقفت “إسرائيل” ذبحهم لكنها تستمر باحتلال وطنهم! مفارقة مضحكة حقا!
هذه الشروط البريطانية تشبه أخرى أعلنت عنها كندا وهو أمرٌ يثير تساؤلات موضوعية حول جدية تلك الخطوة وحول مفهومهم لحق الشعب الفلسطيني بالحرية والاستقلال الوطني؟ للتوضيح، عندما تعلن دولة عن نيتها الاعتراف بدولة أخرى، فإن ذلك يتم وفق جملة معايير تلتزم بها الدولة المعترفة وبالطبع لا تتضمن شروطا تتنافى مع العقل وأبجديات حقوق الانسان وحقوق الشعوب الوطنية كما هي الحالة الراهنة. ربما يتمثل أهم تلك المعايير في قدرة الدولة على تفعيل خطوة الاعتراف تلك والتي تأتي خدمة لمصالحها العليا وتتناغم مع المناخ الدولي في ذلك الاتجاه أي أن الاعتراف يمثل خطوة واقعية وليس قفزة في الهواء وليست مشروطة بسلوك دولة الاحتلال كما تفعل بريطانيا وسربها. في الحقيقة، فإن حال فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا ودول غربية أخرى يشي بعدم صدق النوايا وهو عكس حال دول أوروبية أخرى كأيسلندا وأيرلندا وإسبانيا والتي كانت مواقفها أكثر صدقا وتعاطفا مع الفلسطينيين بل وسبقت هذا المهرجان الدبلوماسي. في هذا الصدد يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن بريطانيا هي راعية إعلان بلفور وأن فرنسا هي حاضنة المشروع النووي الصهيوني بعيد سنوات من إقامة الكيان الصهيوني العدواني.

السؤال المطروح في هذه الحالة هو لماذا كل هذه الجلبة التي ليس لها دلالة موضوعية أو مادية تجسدها إجابات على أسئلة بسيطة مثل ما هي حدود دولة فلسطين العتيدة؟ ومتى ستتم إقامتها؟ وما هي وسائل الضغط لإقامتها في حين يمارس الحليف الصهيوني المدلل الرفض بل الرفس موبخا بريطانيا وفرنسا بقول أحد مسؤوليه: إن أراد الفلسطينيون دولة فليقيموها في فرنسا أو بريطانيا! نحن ما نزال نتذكر دعوات إقامة دولة فلسطينية جاهر بها مسؤولون أمريكيون وغربيون آخرون في أعقاب حرب الخليج الأولى. آنذاك (30 تشرين الأول-1 تشرين الثاني من العام 1991)، رعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق مؤتمرا دوليا عقد في العاصمة الإسبانية مدريد بهدف تحقيق السلام بين العرب و”إسرائيل“. السؤال الذي يجب طرحه بعد نحو خمسة وثلاثين عاما هو ماذا تحقق بعد ذلك؟ الإجابة العابرة تتجسد في سلسلة المصائب التي لحقت بالعرب وفي مقدمتهم الفلسطينيين بعد ذلك المؤتمر. لقد تم غزو وتدمير العراق ثم ليبيا مرورا بالحرب الأهلية الطاحنة في السودان ثم تدمير لبنان وسوريا ناهيكم عن كم هائل من الويلات التي حلت بالفلسطينيين وما تزال بعد ذلك المؤتمر.
وعليه، فإن الدعوة للاعتراف ب “دولة” فلسطين ليست سوى طعم استخدمه الغرب من قبل ويعيد استخدامه مجددا وكأننا قطيع بلا عقل رغم وضوح طبيعته الخادعة. هل توجب على بريطانيا وفرنسا والعديد من الدول الأوروبية أن تنتظر كل هذا الزمن الرديء قبل أن يعلنوا عن نواياهم بالاعتراف ب “دولة” فلسطين؟ هل غابت عن أنظارهم كل ذاك الزمن مشاهد الفلسطينيين الذين يقتلون ويقتلعون من أرضهم بالترهيب الممنهج وتدمر بيوتهم على رؤوسهم وتعطل كل أشكال حياتهم في الضفة الغربية ويُجوَعون ويُعطَشون وتُجهض نساؤهم بسبب الجوع بل ويموتون جوعا وعطشا إن لم تحصد أرواحهم أدوات القتل المتنوعة في غزة.
هل كان الفلسطينيون بحاجة الى كل ذلك البلاء لتدرك بريطانيا وفرنسا أنهم أحق من معظم شعوب الدنيا بالاستقلال في وطنهم! نحن لم ننس كيف وفرت الدول الغربية للمستوطنين الصهاينة القادمين من كل أصقاع الأرض كل أسباب القوة ليتقاطروا ثم ليحتلوا وطنا لم يعرفوه من قبل وليبيدوا شعبا لم يعاديهم قط! هل يمكننا أن ننسى كيف عملت الولايات المتحدة على ترهيب دولٍ مسالمة من أجل التصويتٍ لصالح قرار في الجمعية العمومية للأمم المتحدة في العام 1947 يقضي بتقسيم فلسطين بين أهلها وأولئك الغرباء؟ نحن نتذكر جيدا كيف ابتلع الصهاينة برضىً وبتواطؤِ الدول الغربية كل الوطن الفلسطيني بعد عام النكبة! هل المطلوب أن نصدق أن الرحمة والهداية قد حطتا في النهاية على كتفي إبليس فأصبح ملاكاً رحيما! نحن لسنا سذجا الى تلك الدرجة لنكتشف بعد قرن من المعاناة والمآسي التي لم تنتهي أن حكمنا على دول مثل بريطانيا وفرنسا كان خاطئا وأن تلك الدول تحب العدل والسلام وتريد لنا الخير والحرية.
ما هو واضح لكل ذي بصيرة أن الدعوة للاعتراف ب “دولة” فلسطين ليست سوى “موضة” أزياء يتقاطر الجميع على ارتدائها كي لا يقال عنهم بأنهم “رجعيون” أو “دقة” قديمة. وكما الموضة فإن الاعتراف ب “دولة” فلسطين سرعان ما سيخبو وهجُة بمرور الأيام بعد أن ينسى العالم الكوارث التي صنعتها الحركة الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني. سيترك الفلسطينيون وحيدين للعيش مجددا مع مآسيهم المستجدة ولن يجدوا سوى الدموع والذكريات الأليمة والمعاناة المريرة والتشرد. هذا المشهد هو ذات المشهد الذي عايشناه من قبل في العراق وفي ليبيا فبعد أحاديث السلام وانتهاء المجزرة و “ترتيب الأوضاع” سيخيم صمت القبور على المشهد وسينسى الناس أهوال الماضي بل وسيتطلعون الى الأصدقاء الغربيين من أجل الازدهار والبناء والتعاون في مجالات الاقتصاد والسياحة والاستثمارات النفطية والتعدينية والبنى التحتية التي خربوها…
*كاتب ومفكر أردني

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

تحولات استراتيجية الأمن القومي الأمريكي تجاه إيران!

بروفيسور. عوض سليمية* تميزت الفترة الرئاسية الاولى للرئيس ترامب (2017-2021) بتوترات كبيرة في العلاقة مع …