بدر بن عبدالله الهنائي
قبل الشروع في الموضوع فإنه من المهم وجود الأرضية المناسبة له فيما يتعلق بوضوح المصطلحات والمفاهيم؛ فما المقصود بمصطلح حملات التضليل؟ مع تفكيك المصطلح نجد أن مفردة حملة تعني العمل بطريقة منظمة وفاعلة تجاه تحقيق هدف ما، أما مفردة التضليل فإن معناها تقديم معلومات غير صحيحة بقصد إيجاد أفكار أو انطباعات خاطئة ضمن مجموعة معينة من الأفراد. وبناء على التعريفين الآنفي الذكر فإن مفهوم حملات التضليل يمكن أن يتلخص في أن تقوم جهة ما بتنظيم سلسلة من الأنشطة الاتصالية تستهدف بها جمهورا معينا من أجل تغيير أفكاره وانطباعاته تجاه موضوع معين بما لا يعكس الصورة الحقيقية لذلك الموضوع. وتعتبر حملات التضليل أكثر تعقيدا من الأخبار الكاذبة من حيث طبيعتها وتأثيرها؛ حيث إنها تتطلب جهودا أكثر في التنسيق والاستهداف من أجل تشكيل التصورات الذهنية المطلوب تحقيقها.
تجد حملات التضليل بيئتها الخصبة عندما لا تتعرض المعلومات التي تقدم عبرها للتمحيص أو الملاحظة، وذلك يعكس إما دقة الجهات القائمة على تنفيذ تلك الحملات، أو تدني مستوى وعي المجتمع عموما أو الجمهور المستهدف بتلك الحملات على وجه الخصوص حول كيفية تمييز تلك الحملات والنأي بنفسه عن أن يكون أداة مُوَجَّهَة ضمن أجندات الجهات القائمة على تلك الحملات.
وتتنوع نماذج حملات التضليل من أجل خدمة أجندات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو عسكرية، كما لا ينبغي أن يعتقد مجتمع ما أنه بمعزل عن الاستهداف بها ما دامت التدافعات والصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية قائمة سواء ضمن نطاقات الدول نفسها أو بين دول مختلفة. ففي الفلبين اتبع القائمون على حملة أحد المترشحين للرئاسة منذ عدة سنوات ممارسات بهدف نشر معلومات مضللة تخدم أجندة المترشح وذلك عبر توظيف أعداد هائلة مما يعرف بالجيوش الإلكترونية لكتابة أخبار غير صحيحة وطرح آراء مناصرة للمترشح ما أدى لاحقا إلى فوز ذلك المترشح بالرئاسة. وقد أطلق باحثون من جامعة ليدز البريطانية على هذا النوع من الممارسات (عمارة التضليل الشبكي Architecture of Networked Disinformation). كما تعتبر الهند إحدى أكبر البيئات الحاضنة لحملات التضليل نظرا للتعددية الدينية والثقافية والسياسية والمجتمعية، بالإضافة إلى الحجم الهائل للسكان، وتوفر الوسائط التي تساعد على تنفيذ حملات التضليل، وأخيرا تدني مستويات الوعي المجتمعي حول كيفية عمل هذه الحملات وطرق تمحيص المحتوى المتداول عبر منصات التواصل. ولكن في المقابل لم تسلم حتى أكثر الدول تقدما سواء في ممارسات الديمقراطية وحرية التعبير والوعي المجتمعي والتقنيات الحديثة من أن تكون عرضة لحملات التضليل سواء من الخارج أو حتى في الداخل، ولعل أبسط وأشهر الأمثلة في ذلك الفرضيات المطروحة حول انتخابات الرئاسة الأمريكية في 2016 وما إذا كانت هنالك حملات تضليل قامت بتنفيذها روسيا من أجل تحقيق عدة أهداف أهمها التأثير على حملة هيلاري كلينتون الانتخابية للرئاسة، وتعزيز موقف دونالد ترمب في حملته، وعموما تعميق الشقاق السياسي والاجتماعي في النسيج الأمريكي، وهي اتهامات رفضها المسؤولون الروس لاحقا.
هنالك أساليب مختلفة يمكن أن تتبعها حملات التضليل نستطيع تصنيفهما على مستويين: الوسائل والرسائل. فعلى مستوى الوسائل يمكن أن يتبع القائمون على حملات التضليل ممارسة التجييش؛ وهي إيجاد مجموعة من الأفراد من أجل القيام بأنشطة منسقة للتلاعب بأفكار جمهور مستهدف عبر بث المعلومات والتعليقات حول موضوع معين. إلى جانب ذلك توجد ممارسة الدمى وهي إيجاد حسابات عبر منصات التواصل تنتحل شخصيات حقيقية، وممارسة شبكات الإنسان الآلي Bot Nets وهي برمجيات يتم تهيئتها من أجل بث معلومات وتعليقات بشكل مستمر وتلقائي دون تدخل بشري، وممارسة الاختراقات من أجل الاستيلاء على منصات أو حسابات أو تعطيل مواقع إلكترونية بهدف حجب أو تحوير معلومات معينة، وأخيرا ممارسة استغلال الفراغ المعرفي بحيث تقوم الجهات القائمة على حملات التضليل ببث معلومات خاطئة حول موضوع لا تتوفر المعلومات الصحيحة عنه نتيجة قصور المؤسسات القائمة عليها في إتاحة البيانات والمعلومات الصحيحة للجمهور.
أما على مستوى الرسائل، فيمكن تلخيص ممارسات حملات التضليل في نشر (الرسائل البناءة) والتي تشجع على اتخاذ سلوك معين عبر منصات التواصل يخدم أجندة الحملة أو الجهة القائمة عليها، أو نشر (الرسائل الهدامة) وهي رسائل سلبية للنيل من جهة أو فرد أو التشهير بهم أو التأثير على مصداقيتهم، أو (الرسائل المحيرة) من أجل تعزيز الشعور بعدم الوضوح أو الاستقرار لدى المجتمع أو الجمهور المستهدف أو تعريضه لكم كبير من المعلومات أو البيانات حول موضوع ما بحيث لا يستطيع اتخاذ موقف معين تجاه ذلك الموضوع.
إذن كيف يمكن للجمهور أن يحصن نفسه أمام حملات التضليل المحتملة؟ يمكن في الإجابة على هذا التساؤل الاستفادة من براعة البريطانيين في التنظير؛ فقد صاغت الحكومة البريطانية دليلا مبسطا للمجتمع من أجل تمكينه من مواجهة حملات التضليل بشكل عام ومؤخرا أثناء جائحة كورونا. وتتلخص مبادئ ذلك الدليل في التحقق من مصدر المعلومات والاعتماد قدر الإمكان على المصادر الرسمية والموثوقة، وعدم الاعتماد على قراءة العنوان الرئيسي للموضوع فقط من أجل مشاركة المعلومات الواردة فيه، ومحاولة التفكر في محتوى الموضوع وخصوصا لو كان يحمل معلومات تبدو غير واقعية، والانتباه لما قد يكون مفبركا من صور أو نصوص أو مواقع إلكترونية أو حسابات عبر منصات التواصل، والتحقق من وجود الأخطاء اللغوية أو الإملائية أو في المصطلحات حيث إن المعلومات الصادرة عن الجهات الرسمية عادة ما تكون سليمة من تلك الأخطاء.
وعموما فإن الحديث عن مسؤولية المجتمع لتحصين نفسه ضد حملات التضليل يتكامل بصورة واسعة مع ما يمكن أن تقوم به المؤسسات الرسمية ووسائل الإعلام، بحيث تعمل المنظومة المكونة من تلك الأطراف الثالثة من أجل مواجهة حملات التضليل مهما كانت أجنداتها أو مصادرها.
نقلا عن عمان العمانية