أمين مصطفى
حدث لم يكن عادياً أو عابراً، ذلك الذي صنعه ستة أسرى فلسطينيون “خمسة من حركة الجهاد الإسلامي وواحد من حركة فتح”، عندما نجحوا في الفرار من سجن جلبوع، قرب مدينة بيسان شمال فلسطين المحتلة، الساعة الثالثة من فجر الاثنين الواقع فيه السادس من أيلول – سبتمبر 2021، بعد أن حفروا نفقاً بطول 20 مترا “وفق المصادر العبرية” وخرجوا إلى الحرية، مسجلين أكبر صفعة مدوية للعدو الصهيوني، وفشل لكل الوزارات والأجهزة الأمنية التابعة له، من وزارة الأمن الداخلي إلى شعبة الإستخبارات العسكرية وغيرها من المؤسسات الأمنية.
أستغرقت عملية حفر النفق حوالي ثمانية شهور-حسب القناة 12 العبرية-، ما يعني فضيحة كبرى تشكل كما وصفها محللون صهاينة “ضربة تحت الحزام للأمن “الإسرائيلي”. لم تكن هذه العملية الأولى من نوعها لحركة الجهاد الإسلامي في كسر القيد، فقد سبقها سلسلة من العمليات التي أحدثت صدمات قوية للعدو في سجون: غزة المركزي بتاريخ 18/5/1987، “كيلي شيفع بتاريخ 2/1/1995″، “كفار يونا بتاريخ 4/8/1996″،” جنيد ثم سجن النقب العام 1996، وعسقلان بتاريخ 12/7/1996، وعوفر برام الله بتاريخ 22/5/2003.
تكمن أهمية العملية الأخيرة في سجن جلبوع بتوقيتها وأبعادها ومضامينها، إضافة إلى الأمنية: السياسية، النفسية، والمعنوية، يمكن إيجازها بالتالي:
أولا: أثبتت العملية جرأةً وحرفية عالية، ودقة وصبراً ومثابرة، ودرساً دقيقاً لتفاصيل المعتقل وغرفه والحركة فيه، وقد أطلق على هذا السجن وصف “الخزنة الحديدية” لشدة تحصينه وتصفيحه
ثانياً: كشفت العجز والفشل البارزين في الإحاطة بكل شيئ داخل السجن، من ناحية الرقابة والأمن من قبل السجانين.
ثالثاً: إحداث إرباك كبير للحكومة الصهيونية ومؤسساتها كاملةً، وقد ظهر ذلك بوضوح من خلال التصريحات والمواقف وتبادل الإتهامات في التقصير.
رابعاً: المطالبة بالإطاحة برؤوس أمنية وسياسية كبيرة، وتحميلها مسؤولية ما جرى.
خامساً: إضعاف معنويات المستوطنين وإجبارهم على الإنكفاء.
سادساً: تشجيع الأسرى على التصعيد والمطالبة بحقوقهم.
سابعاً: شحن النفوس لدى الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات بطاقة صمود وتحدٍ كبيرة، تنعش الأمال بالتحرير والعودة، وتعزيز روح المقاومة.
والصدمة المؤثرة الأخرى للعدو كانت أن عملية سجن جلبوع، جاءت في أعقاب عملية بطولية أخرى نادرة أيضاً، وقد دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، تمثلت بقتل قناص صهيوني، على يد مناضل فلسطيني عند حدود قطاع غزة، ما حطم أسطورة الجيش المحصن خلف الجدران، والمزعوم بأنه لا يقهر.
أما لماذا أخذت هذه العملية أيضاً وأيضاً كل هذا الصدى، فإنه يعود إلى أن العدو بنى هذا السجن بأوهام إستحالة اختراقه، فهو كما وصفه أحد السجناء المحررين الذي عاش فيه، بأنه محصن بالجدران الإسمنتية العالية، ومحروس بالكلاب البوليسية، ومحاط بأبراج مراقبة مرتفعة، تُمكن السجان من مراقبة كل شيء، وهو مبني في منطقة تحيطها الجبال والسهول المكشوفة، ومغروس بكاميرات مراقبة، ومجسات داخل السجن وخارجه، ويقوم السجان بالكشف على الموجودين داخل الغرف كل ربع ساعة، ويتفحص الشبابيك ثلاث مرات يومياً ويدقق في عدد الأسرى، ويتم تغيير الأقسام كل ستة شهور، تجنباً للتخطيط لأي عملية فرار، وكل أسبوع يقوم ضباط الأمن والاستخبارات ومدير السجن في جولة داخل الأقسام، والسجناء “الخطيرون كما يطلق عليهم يوضعون تحت الرقابة، والقيد بأيديهم، ويتم التعامل معهم بقسوة وعنف، ويحرم عليهم البقاء بجانب الحائط، ويفرض عليهم التواجد وسط قسم السجن.
كل هذه الإجراءات إنهارت دفعة واحدة، فلا الأسر حد من عزيمة المجاهدين، ولا جدران الزنازين، ولا القوانين الجائرة ولا الرقابة ولا قهر السجان اليومية، إنما أدت هذه الممارسات إلى تشجيع السجناء على إبتكار أساليب مقاومة جديدة، تدب الرعب في قلوب السجانين، وتضعف من روحهم المعنوية.
ومن المحصلة المباشرة للعملية أن العدو سيظل تحت هول الصدمة مدة طويلة، لأن عقله المستبد والمتعجرف لم يستطع حتى الآن إستيعاب الفضيحة الكبرى، في وقت كان يتباهى فيه بقوته، ويحاول تسويقها لبعض الدول الضعيفة بغية استقطابها، وتوقيع إتفاقات تطبيع مهينة معها
الحوادث الأمنية الصادمة شبه اليومية ضد العدو بعد معركة “سيف القدس”، وما سبقها ولحقها، تأكيد على أن إرادة الشعب الفلسطيني عصية على الكسر، وهي قادرة على تحقيق المزيد من الإنجازات على طريق تحرير كامل التراب الفلسطيني المحتل، ومخاوف الصهاينة الآن تشتد بعد عملية الفرار، خشية من أن تتسبب بانتفاضة شعبية عارمة في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، تلاقي التصعيد على طول الحدود مع قطاع غزة، والتحرك الفاعل داخل الأراضي المحتلة العام 1948 ما يؤدي إلى خلق معادلة جديدة تقلب الطاولة على رأس كل المتخاذلين
هذه الإنتصارات والإنجازات تتطلب صيانة قوية وحماية ورعاية من قبل أبناء الشعب الفلسطيني على كامل مساحة الخارطة الفلسطينية، وتحذر من يحاول مساعدة العدو في ملاحقة وكشف أماكن تواجد الأسرى الفارين من سجن جلبوع، بخاصة وأن التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وكيان الاحتلال ما زال في ذروته، ويشكل حالة قلق يثير الريبة .
مرة أخرى أكد أبطال عملية الفرار الجديدة، أن الحرية لا توهب عبر الإستجداء واللهاث وراء سراب الأوهام الأمريكية والصهيونية، من خلال التفاوض العبثي، فكسر القيد ومعانقة الحرية يحتاج إلى إرادة وقلوب مؤمنة بخيار المقاومة، والتصدي لكل مشاريع الهيمنة والقهر والإذلال، التي تسعى لتصفية القضية الفلسطينية وشطب حق العودة .
شاهد أيضاً
الأتباع و”مزاج” واشنطن!
وديع العبسي* أن يدعي الشخص، الموضوعية والواقعية فإنه يفترض به أن يسمي الأمور بمسمياتها، فالأبيض …