كمال خلف*
الغضب العارم في فرنسا وصل حد استدعاء سفيريها من واشنطن وكانبرا، بعد ان ألغت الحكومة الأسترالية صفقة بقيمة 40 مليار دولار لشراء غواصات فرنسية، وقررت استبدالها بأخرى أمريكية عاملة بالوقود النووي .
وصعدت فرنسا لهجتها بشكل غير مسبوق تجاه إدارة الرئيس “جو بايدن” مستخدمة عبارات “الطعن بالظهر” و”الصفع على الوجه” والانانية، وغيرها من العبارات التي تدل على بوادر ازمة ثقة بين الولايات المتحدة وشركائها الاوربيين.
على الرغم من ان “جو بايدن” دأب على التحدث عن تعزيز العلاقات بين ضفتي الأطلسي منذ حملته الانتخابية، الا انه بالنتيجة انتهج ما يعاكس ذلك، وتصرف مع الفرنسيين على طريقة دونالد ترامب.
ومهما يكن فان أهمية هذا الحدث تبدو ضئيلة امام اتجاه واشنطن نحو اول اجراء عالمي بالغ الخطورة في مواجهة الصين. فصفقة الغواصات النووية الامريكية مع استراليا تتعدى مفهوم التنافس التجاري او انتزاع واشنطن مليارات الدولار من فم باريس بهدف تحقيق أرباح مالية ومكاسب اقتصادية. وبات واضحا ان إدارة بايدن حددت نقطة الانطلاق نحو تحدي الطموحات الصينية العالمية. وجاء الإعلان عن تحالف “اوكوس” الثلاثي بين الولايات المتحدة واستراليا وبريطانيا للتعاون في منطقة المحيطين الهندي والهادي، بمثابة انطلاق حلف عسكري يعزز انتشاره في منطقة حيوية بالنسبة للصين وعلى حدود نفوذها البحري. لن يقتصر اتفاق “اوكوس” على تزويد كانبرا بغواصات نووية كنوع من تطوير القوة البحرية، بل ستحصل أيضا على صواريخ كروز أميركية من طراز توماهوك. والتعاون في مجالات الدفاع السيبراني والذكاء الاصطناعي والتقنيات الكمومية وضرب اهداف بعيدة.
على الفور التقطت بكين الإشارة الواضحة، واعتبرت ان الدول الثلاث تسعى لاطلاق حرب باردة وسباق تسلح وزعزعة استقرار المحيطين الهندي والهادي، وفق مفاهيم جيوسياسية ضيقة الأفق هذه التصريحات التي تعكس القلق الصيني لم تكن نهاية المطاف في التعبير عن الموقف الصيني، فقد تركت بكين تتمة الموقف لوسائل اعلامها الرسمية التي لوحت بالعمل العسكري ضد استراليا كأول ضحايا الغرب في بحر الصين الجنوبي.
ومن خلال البيانات للأطراف المعنية يتضح الأهمية المتزايدة للمحيطين الهادي والهندي. فقد تحولت هذه المنطقة من العالم من موطن للاقتصادات الأسرع نموًا في العالم، الى بؤرة سباق تسلح من خلال زيادات مضطردة للانفاق العسكري في مجال التفوق البحري، لتتحول اليوم الأنظار اليها باعتبارها مركز الصراع بين القوى الدولية الكبرى.
ومن الواضح ان الإدارة الامريكية وصلت الى قناعة ان الشركاء الاوربيين غير مستعدين للانخراط ضمن الاستراتيجية الامريكية الجديدة لتحدي الصين ، خاصة ان الفرنسيين يشددون على استقلالية أوروبا في هذا التنامي للصراع بين القوة الصينية الصاعدة والولايات المتحدة المتشبثة بمبدأ التفوق العالمي . ولهذا وجدت إدارة بايدن بالشريك التقليدي البريطاني الخارج من المظلة الاوربية حليفا لديه كامل الاستعداد للانخراط في تطبيق الاستراتيجية الامريكية الجديدة مع توسيع دائرة الحلف التي شملت استراليا بحصولها على احد اهم الاحتكارات العسكرية الامريكية “كثاني دولة في العالم تحصل على هذه التقنيات غواصات الدفع النووي” بعد بريطانيا. ولاحقا سيضم التحالف كلا من اليابان الأكثر حماسا للاتفاق وانشاء حلف ضد الصين والهند حسب تقرير وسائل الاعلام الامريكية.
والأكثر غرابة في هذا المشهد ان دول الاتحاد الأوربي لم تتبلغ أصلا بهكذا مشروع وقد بدات اتصالاتها بالدول المعنية لتقييم الموقف حسب تصريحات مسؤولين أوروبيين.
اتفاق “اوكوس” يوكد ان الإدارة الامريكية سعت ومنذ مجيء جو بايدن الى البيت الأبيض لاجتراح خارطة تحالفات جديدة تتناسب مع أولويات أمريكا في المرحلة المقبلة، خارج اطر التحالفات التقليدية التاريخية الكبرى، وخارج اطار الناتو وبالتالي فان اضعاف الرئيس السابق “دونالد ترامب” للعلاقات مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، لم تكن الا نهجا أمريكيا وسياسة تتبناها الدولة العميقة في واشنطن، وهذا ما يفسر مضي الرئيس بايدن نحو التحالف مع عدد محدود من الدول، وتنحية الشركاء الاوربيين وبصورة فظة ومهينة، لا تختلف عن أسلوب سلفه ترامب الا من ناحية اللغة الدبلوماسية قولا لا فعلا. ليس هذا الاتفاق الذي يؤسس لتحالف على الحدود البحرية للصين في هذه المنطقة الهامة من العالم حدثا عاديا، انما تحول تاريخي في خريطة التحالفات العالمية. بل زلزال في بنية النظام الدولي وفي طبيعة التنافس والصراع العالمي.
*كاتب واعلامي فلسطيني
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …