د/ تدمري عبد الوهاب
يحتدم الصراع حاليا بين أقطاب صاعدة ممثلة في كل من روسيا والصين، وهي دول تبحث لنفسها عن موقع يتناسب وقدراتها المتنامية ويحفظ لها مصالحها الإستراتيجية، وبين قطب ممثل بأمريكا، يمتلك قدرات كبيرة، لكنه يعيش حالة إنكفاء بعد أن هيمن بشكل مطلق على المنتظم الدولي ومؤسساته لعقدين متتاليين، ينضاف الى هذا الوضع إنقسام المعسكر الغربي بين تكتل أمريكي بريطاني أسترالي وآخر أوروبي بقيادة فرنسا وألمانيا، وهو ما يجعل العالم يعيش حالة ترقب تنذر باصطدام واسع لعدم تقبل العقل السياسي الأمريكي واقع التعددية القطبية الذي بدأ يفرض نفسه على الساحة الدولية.
إن هذا الاحتقان في العلاقات الدولية القاب قوسين أو أدنى من الإنفجار، والهوة التي بدأت تتسع بين أوروبا و أمريكا، يجد أسسه ومصوغاته النظرية في ميثاق الأمن القومي الأمريكي الجديد الذي لم يحد عن نهج سابقيه، والذي يضع المصالح الأمريكية فوق كل اعتبار، ويسعى للإبقاء على علاقات روسية أوروبية متوترة مع إقحام هذه الأخيرة في الصراع الأمريكي الروسي، رغم ما يمكن أن تجنيه أوروبا من مصالح مشتركة اقتصادية وعسكرية بتقاربها مع روسيا التي لم تعد تشكل تهديدا إيديولوجيا ولا عسكريا على المجموعة الأوروبية، بعد أن تبنت نظام إقتصاد السوق، وهو ما يقوض جدوى مجاراة أمريكا في هذا الصراع الدولي، هذا في الوقت الذي تتنكر فيه أمريكا للمصالح الأوروبية وتستحوذ على كثير من مناطق نفوذها التقليدية،
إن الوقوف عند مؤشرات هذا التصعيد الأمريكي الأطلسي بشقيه الأوروبي المتحفظ والمتردد على الحدود الغربية لروسيا، والأنجلوسكسوني المندفع والمنسجم مع نفس الأهداف في بحر الصين، والذي يسعى إلى عرقلة مسار التعددية القطبية كواقع يفرض نفسه، يدفعنا حتما إلى تحليل العناصر التالية :
✓ في مضامين إستراتيجيات الأمن القومي لكل من أمريكا وروسيا والصين
من خلال التفحص الدقيق لمختلف هذه الإستراتيجيات للسنوات الاربع القادمة، يتبين الفرق بين ما تطرحه كل من روسيا والصين اللتان تركزان على تقوية الأمن القومي الداخلي وردع التهديدات خارجيا مع التعبير على إرادتهما المشتركة في التعاون الاقتصادي والمساهمة في بناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وبين ما تنتهجه أمريكا من سياسات عدائية تجاه كل من الصين وروسيا باعتبارهما يشكلان تهديدا لمصالحها عبر العالم، وبالتالي تعتمد في استراتيجيتها الهجومية الجمع بين العقوبات الإقتصادية ونقل التهديدات العسكرية إلى حدودهما سواء في شرق أوروبا وأوكرانيا والقوقاز عبر الناتو أو في بحر الصين الجنوبي عبر الحلف الأنكلو سكسوني الجديد .
كما أن تحفظ أوروبا في مجاراة الإستراتيجية الصدامية لأمريكا وعدم تمكن الرئيس الأمريكي بايدن من استمالة روسيا كقوة ضاربة إلى الحلف الاطلسي، خلال لقاء القمة الذي جمعه بالرئيس الروسي بوتين، من أجل الانفراد بالصين كقوة إقتصادية منافسة، عبر التهويل من مخاطر هذه العلاقة على الأمن الإستراتيجي الروسي، وتأكيد كل من روسيا والصين مباشرة بعد هذا اللقاء على متانة الشراكة الإستراتيجية التي تجمعهما بإيران، أفشل جانبا من المخطط غير المعلن في ميثاق الأمن القومي الأمريكي، وحدد في المقابل ملامح المواجهة المستقبلية بين تكتل أمريكي جديد بدأ يتشكل على حساب التكتل الغربي الأوروبي الذي تربطه بالصين وروسيا شراكات إقتصادية قوية.
✓ أمريكا وأوروبا : إعادة تقسيم الأدوار أم بداية تفكك العلاقات الأمريكية الأوروبية
من أجل مواجهة ما تم تصنيفه تهديدا إستراتيجيا من طرف أمريكا المتمثل في كل من الصين وروسيا، كان لزاما على الإدارة الأمريكية الجديدة إعادة النظر في علاقاتها بدول أوروبا الغربية التي لم تعد تسايرها في الكثير من المواقف الدولية سواء تجاه روسيا أو الصين أو إيران إلخ … التي تربطها بهذه الدول مصالح إقتصادية قوية، وتجد في التصعيد الأمريكي إضرارا بمصالحها الإستراتيجية، في الوقت الذي تعمل فيه هذه الأخيرة على استثمار هذا التصعيد لصالحها دون مراعاة مصالح شركائها كما فعلت مع صفقة الغواصات الفرنسية الأسترالية واستمرارها في الاستيلاء على مناطق النفوذ التقليدية لأوروبا سواء في أفريقيا أو آسيا.
كما أن حالة الإستياء العامة لدى الأوربيين من الإنسحاب المتسرع لأمريكا من أفغانستان، دون استشارة مسبقة معهم، وما خلفه من حالة إرتباك لقواتهم المشاركة في الناتو، والتي كان من بين نتائجها المباشرة إستقالة وزير الدفاع الهولندي، كما أنها أعادت إحياء فكرة إنشاء قوة أوروبية خاصة، هذا بالاضافة إلى إصرار ألمانيا على استكمال خط الغاز الشمالي كمشروع اقتصادي يهم الأمن القومي الأوروبي، رغم المعارضة الصريحة لأمريكا وتحفظ الدول الأوروبية على الكثير من سياسات هذه الأخيرة اتجاه كل من الصين وروسيا وعدم اتفاقها على إقحام الناتو في هذه النزاعات أو حتى على إنضمام أوكرانيا إليه.
كل هذه العناصر تظهر الفجوة التي بدأت تتسع بين أوروبا وأمريكا في العديد من القضايا الدولية، وهو ما يفسر لجوء أمريكا إلى إنشاء حلف انگلوسكسوني بديل ومنسجم من حيث الأهداف والتعصب للعرق الأبيض.
هذه العناصر مجتمعة تدفع ليس فقط إلى إعادة رسم الأدوار بين أعضاء الحلف الغربي التقليدي، بعد أن انتفت الأسباب التي دعت إلى تأسيسه، بل إلى إدراك الإدارة الأمريكية أن أوروبا بدأت تتلمس طريقها لبناء شخصيتها المستقلة من الناحية الدفاعية والإقتصادية وتتجه إلى بناء علاقات دولية مستقلة تخدم مصالحها الإستراتيجية، بالشكل الذي يجعلها متحررة من التبعية للإرادة الأمريكية التي طالما اعتبرت أوروبا عبئا ينهكها من الناحية الدفاعية.
✓ مناطق النزاع : إعادة ترتيب الأولويات
إن التحالف الثلاثي الغير معلن عنه في الميثاق القومي الأمريكي الجديد وما يستدعيه من توظيف للقدرات العسكرية من أجل إنجاز مهام المواجهة مع من اعتبرهم الميثاق أعداء أساسيين، سيكون بالضرورة على حساب التواجد الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، الذي فشلت فيه إستراتيجيتها الهيمنية السابقة واستنزفت الكثير من قدراتها العسكرية والإقتصادية وأدت إلى بروز قوى محلية مناهضة ومقاومة لها تتزعمها إيران كقوة إقليمية صاعدة، مدعومة من قبل الصين وروسيا، رغم كل العقوبات والحصار المفروض عليها، في ظرفية اتسمت بانسحابها الكلي واللامشروط من أفغانستان، والتي أبانت عن فشل الإستراتيجية الأمريكية السابقة في شرق ٱسيا والشرق الأوسط، كما هو الحال في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن، حيث تبدو مهمة إستمرار قواتها فيها بعد تصاعد المقاومة ضدها تكاد تكون مستحيلة، وبالتالي فإن عدم إيلاء الشرق الأوسط الأولوية في ميثاق أمنها القومي الحالي هو محاولة منها للهروب من واقع يستنزفها دون طائل، لا سيما وأن موازين الصراع بدأت كفتها تميل لصالح محور المقاومة ولكل من روسيا والصين، ومن جهة اخرى أصبح لزاما على أمريكا التخفيف من عدد جبهات الصراع، مع إفساح المجال لبعض وكلائها من داخل الحلف الأطلسي لإنجاز هذه المهمة كتركيا وبعض الدول العربية كالإمارات والسعودية، بالاضافة إلى الحليف الإستراتيجي إسرائيل وبعض الفصائل المصنفة أمميا إرهابية للقيام بمهام تكريس الهيمنة الأمريكية نيابة عنها من أجل خلق محطات مشاغلة لروسيا وإيران وكل الدول والتنظيمات المنتسبة لمحور المقاومة خاصة في منطقة الشرق الأوسط، ومن تم التفرغ لمن اعتبرتهم يشكلون تهديدا إستراتيجيا لهيمنتها على العالم مع العمل على توتير أو خلق مناطق نزاع جديدة.
إن تخفيف أمريكا مؤخرا من تواجدها في بعض مناطق النزاع التقليدية، للاعتبارات السالفة الذكر، وإيلاء هذه المهمة لبعض وكلائها المحليين، هو عمل منسجم مع ما تضمنته استراتيجيتها الجديدة القاضية بنقل مناطق التماس إلى الحدود الروسية والصينية.
لقد بدأ الإشتغال على هذه الإستراتيجية منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي، أي مع المرحلة الريغانية عندما انهار جدار برلين وما أعقبه من ثورات ملونة في بلدان أوروبا الشرقية بدعم من أمريكا والغرب والتمدد شرقا وجنوبا إلى الحدود الروسية ضمن إستراتيجية
” الأناكوندا النائمة ” بعد أن تغذت بما حققته من إنتصارات في انتظار الوقت الملائم، وما ينطبق على روسيا ينطبق على الصين، حيث حافظت أمريكا على تواجدها في بحر الصين منذ مرحلة الحرب الباردة وأبقت على علاقات تعاون عسكري وإقتصادي مع تايوان التي تعتبرها الصين والأمم المتحدة ضمن السيادة الصينية في إطار الصين الواحدة، هذا بالاضافة الى الجزر التي احتلتها إبان الحرب العالمية والتي تطالب بهما كل من الفلبين و فيتنام الخ … لكن إذا كان هذا التواجد قد أدرجته امريكا في إطار استراتيجية الإنتظار، عندما كانت الصين لاتشكل تهديدا كبيرا لها، فإنها ومنذ ولاية ترامب ومع تعاظم نفوذ الصين أصبحت ملامح المواجهة أكثر بروزا من خلال العقوبات الإقتصادية أولا والتلويح بمواجهة عسكرية ثانيا، وهو ما ذهبت إليه مؤخرا عبر تكثيف تواجدها العسكري في بحر الصين الجنوبي تحت ذريعة الحفاظ على الملاحة العالمية وتشكيل تحالف عسكري أنگلوسكسوني جديد يشاطرها الطبيعة العدوانية إزاء من تعتبرهم أعداء إستراتيجيين.
خلاصة
إنه لمن المستبعد جدا ان تقر أمريكا بنظام عالمي جديد قائم على التعددية القطبية، عالم يفتح المجال للتنافس بين الدول بما يضمن المصالح الاقتصادية المشتركة للشعوب كمدخل أساسي لحفظ الأمن والسلم الدوليين، فالعالم مازال مرشحا لمزيد من الصراعات التي يمكن أن تتطور إلى مواجهات مباشرة في أكثر من نقطة ساخنة في العالم، لكن دون أن تتطور إلى حرب كونية، وأن ارتفاع منسوب هذا الصراع سينحسر فقط عندما تنتقل كل من الصين وروسيا من إستراتيجية الردع الدفاعي إلى الردع الهجومي من خلال نقل المعارك من حدودها إلى حدود أمريكا، كما كان الشأن إبان أزمة الصواريخ الكوبية سنة 1962. فكل المعطيات تؤشر على نمو التواجد الصيني في السنوات الأخيرة في جزر ودول منطقة الكاريبي وتطوير أسطولها الحربي البحري، بالاضافة إلى تواجدها جنب روسيا وإيران في كل من كوبا وفنزويلا ودول أخرى في أمريكا الجنوبية.
إن شعور أمريكا بالخطر الداهم لحدودها ورغبتها في إبقاء مناطق النزاع بعيدة عنها، يدفعها للتدخل المستمر من أجل تغيير أنظمة الحكم في الدول المناهضة لها في أمريكا اللاتينية، وذلك للحيلولة دون توطيد علاقاتها مع من تعتبرهم أعداء إستراتيجيين.
لكن تبقى هذه الإستراتيجية الأمريكية المزدوجة القائمة على التدخلات الإستباقية لحماية حدودها الجنوبية من جهة والهجومية في باقي مناطق العالم، أنها أبانت عن محدوديتها في تحقيق الأهداف المتوخاة منها في أكثر من نقطة ساخنة في العالم، نظرا لقدرة كل من روسيا والصين على ردع أي محاولة إستفزازية ترمي لدفعهما إلى الإذعان والتخلي عن طموحهما في حماية وتطوير مصالحهما على المستوى الدولي وأيضا في حماية شركائهما من الغطرسة الأمريكية الأطلسية، بما فيها تلك المتواجدة في أمريكا اللاتينية، وذلك في تحد تام للشعار الأمريكي ” أمريكا للأمريكيين ” ، ويظل خيار نقل المعركة إلى الحدود الأمريكية الخيار الأنسب لكل من الصين و روسيا لردع الغطرسة الأمريكية وإنهاء إستراتيجيتها القائمة على خوض الحروب بعيدا عن أراضيها، كما أن التعجيل بعقد معاهدات دفاع وشراكات إقتصادية مع الدول المحاصرة الرافضة للهيمنة الأمريكية المتواجدة في جنوب أمريكا والعالم، هو السبيل الأنسب لتقوية صمودها وقدرتها على إرساء معادلة ” التهديد في مواجهة التهديد ” لإجبار أمريكا والغرب الأطلسي على إستيعاب التحولات الدولية والإقرار بنهاية الأحادية القطبية ونظام العقوبات الإقتصادية ومنطق أن لا أحد في منأى عن الحرب.
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …