د/أماني القرم*
يحفل التاريخ الانساني بكمٍّ مهول من المذابح وجرائم الابادة التي ارتكبتها الدول الاستعمارية ضد الشعوب الأخرى. البعض منها كُشف بفعل تغير البلاد والاحوال، والبعض الآخر مازال يُروى كذباً بفعل القوة. لكن هذا لا يمنع أن العالم يعلم بها، فإن مات الضحايا ، امتداداتهم وآثار نكبتهم باقية وشاهدة على ما أجترِم بحقهم. مع حالة التطور الفكري والقانوني والتشابك العالمي الحاصل وضرورة بناء الثقة من أجل المصالح المشتركة، باتت بعض الدول أكثر شجاعة في الاعتراف بتاريخها الاسود والاعتذار عنه والاستعداد لتحمّل المسئولية الاخلاقية والقانونية والمادية بالتماس المغفرة والتعويض لمن كانت سبباً في نكبته. ألمانيا كانت من الأوائل في هذا الشأن، باعترافها بالهولوكست وتجديد الاعتذار كل عام تقريباً، والتعبير عن العار إزاء ماضيها، ناهيك عن التعويضات الهائلة للضحايا وورثتهم والتي بلغت ما يقارب المائة مليار يورو !
فرنسا أيضاً /وإن متأخراً وبتكلفة أقل بكثير/ بدأت ما يعرف بسياسة “الخطوات الصغيرة” من أجل مصالحة الذاكرة الفرنسية ـــــ الجزائرية، وإعادة رواية التاريخ دون تزوير، وذلك بتبسيط إجراءات رفع السرية وتسهيل الوصول إلى أرشيفات الوثائق إبان الاستعمار الفرنسي للجزائر قبل 15 عاما من الموعد المحدد للكشف عنها، استجابة لطلبات ملحّة من المؤرخين مثل “بنجامين ستورا” حول ضرورة إجراء هذه المصالحة للذاكرة الفرنسية.
اليابان كذلك أعربت عن ندمها على أفعال قامت بها في الحرب العالمية الثانية. والامثلة تطول للدول التي استطاعت أن تواجه الحقيقة وتعترف بالفظائع التي ارتكبتها.
والحقيقة أن الاعتذار والتعويضات لا تعيد الاشخاص الى الحياة أو تمحي الذاكرة السوداء، لكنها على الأقل رمزية يمكن أن تهدئ الجراح وتسكت قليلاً من روع الذاكرة.
في المقابل، تجد دولاً تصرّ على إنكار ما فعلت وأجيالها الجديدة ما تزال تقطف ثمار جرائمها. اسرائيل مثلاً ، ترفض القيام بهذه الخطوة الشجاعة، بل بوقاحة تحاول صناعة أساطير كاذبة وهوية غائبة غير موجودة أصلاً بمزيد من السرقات كسرقة التراث الفلسطيني بزيّه وأكلاته، ومزيد من التكتيم والتزوير لروايات الحرب ضد الشعب الفلسطيني. في يناير 2019 قام بنيامين نتنياهو بالتوقيع على تعديل يتم بموجبه تمديد فترة الكشف عن المستندات من 70 الى 90 عاما، وطبعا هذه المستندات تشمل كل ما له علاقة بحرب 1948، والجرائم التي أدت الى خلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. وأهمية هذه الاوراق تكمن في أنها تدحض الرواية القائلة أن الفلسطينيين غادروا ممتلكاتهم بمحض ارادتهم، وتكشف سلسلة المجازر وعمليات النهب الغير مروية التي ارتكبت ضد المدنيين، والسياسة الرسمية الممنهجة التي اتبعت ضد الفلسطينيين، والهوية الحقيقية لمرتكبي هذه المجازر كما كشف معهد بحث الصراع الاسرائيلي الفلسطيني “عكيفوت” في تقرير حديث له نشر في اكتوبر الماضي بعنوان “الأمور غير السارة”.
قبل “عكيفوت” بكثير وتحديداً بعد حرب لبنان 1982، صعد تيار لجيل جديد داخل النخبة الثقافية في اسرائيل يسمى “المؤرخين الجدد”. أثار جدلاً كبيراً في الداخل الاسرائيلي حول عدد من المسائل الحساسة في تاريخ الصراع منها: السياسة البريطانية تجاه نهاية الانتداب، والميزان العسكري العربي الإسرائيلي في حرب عام 1948، والأسباب الحقيقية لهجرة الفلسطينيين. تعرض أعضاؤه للنفي والتهديد والقتل لأن روايته الجديدة تحمّل اسرائيل كافة المسئولية القانونية والاخلاقية والمادية لمأساة فلسطين، وتنفي عن العرب التخاذل وعن الفلسطينيين الهروب. أي تنسف الرواية الرسمية الاسرائيلية المزوّرة بالكامل التي حاولت تلفيق صورة أسطورية كاذبة “لليهودي الجديد”: اليهودي النقي المنفتح على الاخر، والاخر هنا ليس العربي إنما اليهودي المهاجر من عالم مختلف، اليهودي العادل الذي ينتمي لأمة ديمقراطية ولم يسكن على انقاض بيت دمّر وأسرة قتلت أو هجّرت، اليهودي الاخلاقي الضعيف، اليهودي الذي ينضوي تحت القلة الذين غلبوا القوة الكبرى !
صحيح أن الفلسطينيين لا يحتاجون الى ملفات اسرائيل لمعرفة قصة اقتلاعهم من الارض، لكن مطالبة اسرائيل والالحاح عليها، والضغط داخليًّا وخارجيًّا للكشف عن هذه الوثائق، ضرورة أخلاقية وقانونية، وخطوة أولى لبناء الثقة وتصحيح لمجرى التاريخ وتيسير لحل الصراع كما فعلت ألمانيا وفرنسا واليابان وإيطاليا و..و..
*كاتبة فلسطينية
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …