د.أسماء عبدالوهاب الشهاري*
عندما تتجزأ الإنسانية ويكون لها مقاسات مختلفة لا تتوافق مع الفطرة الآدمية والبشرية السوية وإنما مع الأهواء والرغبات والأحقاد والأطماع والسياسات البشعة. عندها تتحول المعمورة إلى غابات من فوضى وأجساد جوفاء خالية لا روح فيها أو حياة.
عندها ستجد مدناً جميلةً متزينة يغلب عليها الطابع العمراني وجمال الطبيعة الآخاذ، لكن تسكنها أرواح خاوية وخُشب مسنّدة. عندما لا يعود الإنسان إنساناً ولكن بقايا روح أو بقايا شبح.
الكلام بالأعلى واقعي بل إن الحقيقة أبشع منه بكثير؛ لكنه لا ينطبق على الجميع فلا يزال هناك ثُلة على سطح المعمورة ينتمون لآدميتهم وفطرتهم البشرية السوية. هؤلاء الذين يتألمون بنفس القدر على جميع بني البشر من أبناء جلدتهم ويعوّن جيداً مقولة الإمام علي عليه السلام: واعلم أن الناس صنفان إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق. ومن هنا ندرك أن هناك حق لكل أبناء البشر على بعضهم طالما يربطهم هذا الرباط السامي المقدس لو أنهم كانوا يدركون.
إن الإنسانية يا سادة لا تتجزأ باختلاف المواقف ولا الأحوال والظروف، فأنت لا تستطيع أن تقرر متى تكون إنساناً ومتى تتخلى وتتبرأ من هذه الإنسانية. فلا يوجد مثلاً نصف إنسان. فإما أن تكون إنساناً كاملاً أو لا تكون.
أما لو تحدثنا على شواهد هذا الكلام فهي كثيرةٌ جداً لا تُعد ولا تُحصى. من أقصى المعمورةِ إلى أقصاها.
وقبل أن نستشهد بالأمثلة علينا أن نعي جيداً أن كل الكوارث التي تحل بهذه الأرض مصدرها الإنسان نفسه ولا أحدٌ سواه سواءً أكان ما يُلحقه البشر بعضهم ببعض من ويلات الحروب والاعتداء على الآخر أرضاً وإنساناً أو ما تسببه هذه المظالم والمفاسد والسعي للحرب على القيم ونشر الفساد بين بني البشر من آثارٍ كارثية على السماوات والأرض-تغير ملامح الكون- وعلى البشر كل البشر؛ لقوله تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ«
، فإذا كانت السماوات والأرض تتأثر بفعل الناس من ظلم وفساد واعتداءات ويؤثر ذلك على طبيعتها وفيسولوجيتها؛ فكيف بالإنسان الذي يعد أضعف من هذه المخلوقات، لقوله تعالى: «لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ«
وحق لنا هنا أن نسأل هل بإمكاننا أن نغير من وطأة هذا الأمر أو أن نعيق حدوثه لحدٍ ما؟
لا أعتقد ذلك في الوقت الراهن على أغلب اعتبار؛ لأن الإنسانية مع الأسف متجزأة ومتشرذمة ومتبعثرة. فالإنسان لا يزال يقرر متى عليه أن يحرك مشاعره ومتى عليه أن يستأصلها ويميتها أو لا يُلقي لها بالاً!
فالإنسان الذي يتألم لكل ما يصيب أبناء جلدته من زلازل وفيضانات ومصائب أو من اعتداءات إجرامية سافرة فجميعها تخلق الدمار وتنشر الهلع والرعب وتحبس الأنفاس وتخلِّف إثرها المئات من القصص الإنسانية. فكل إنسان هو عالمٌ قائمٌ بحد ذاته، له حياته وانتماءاته وارتباطاته.
وما أكثر الأمثلة المُرّة على ذلك التي تتسع بسعة هذا الكون. لكن لو اقتربنا من بعض الحقائق في عالمنا العربي والإسلامي فسنجد العجب العجاب!
فسوريا التي أصابها الزلزال اليوم هي سوريا التي أصابها العدوان والإرهاب والدواعش بالأمس. سوريا التي تعاني من اثنتي عشرة سنة أو يزيد من ويلات الإجرام والحروب وتآمر الأقربين والأبعدين.
هل من تأثر اليوم هو نفسه من تأثر بالأمس؟
ألم يكن هنالك قتلى ودمار ومشردين ومئات القصص الإنسانية!
هل هناك من تألموا بنفس القدر على ضحايا الزلزال في سوريا وتركيا أو على ضحايا العدوان في اليمن بكل أبعاده وجزئياته ولفترة تزيد على الثماني سنوات! وغير بلدٍ كذلك.
صدقوني أنّ المشاهد والآثار المترتبة لا تختلف كثيراً. ولكن التأثر بها هو من يختلف!
ترمومتر الإنسانية الهش والمزيف المتأرجح بين الصعود والنزول. بين الشعور واللا شعور!
وفي هذه الحادثة نفسها على بلدين متجاورين. تركيا وسوريا. ورغم ألمنا الشديد وقلوبنا المبعثرة فوق الأنقاض والركام، ومُقلنا الدامية على الأشلاء والأبرياء وفي زوايا الحطام. على القصص الإنسانية وعلى من تشردوا وجرحوا ومن باتوا نِياماً تحت أنقاض الركام.
لكن الإنسانية لا تُمهلنا. الإنسانية لا تزال تقرر أتقف أكثر إلى جانب سوريا أو تركيا رُغم أنهم كلهم أخوتنا ومصابهم مصابنا. لكن الإنسانية لا زالت تنحاز. لا يزال ما يحكمها ليس الإنسان. ولم تقف كلها إلى جانب سوريا التي تعاني من قلة الإمكانات وسوء الحال وما خلفه عليها اعتداءات سنواتٍ طوال.
من فقدوا إنسانيتهم تجاه سوريا وإنما أظهروا حقدهم فقط، هذا الحقد المرتكز على الأيدولوجيا المقيتة، لكن مثل ما خرجت سوريا من أزمات سابقة ستخرج من محنتها وسيمدها الله باللطف والرعاية.
نستنكر الإنسانية المُجزأة، ونعلن تضامننا الكامل مع سوريا ونتمنى لو بإمكاننا أن نعمل شيئاً وندعو جميع أحرار العالم إلى عمل ما يستطيعون تجاه أخوانهم المنكوبين.
إذن ما يحكم الإنسانية الزائفة ليس الإنسان. فمعاييرها مختلفة وبعيدة عن معاناة بني الإنسان.!
لكنني سأظل أعزف على إنسانيتي أعذب الألحان. فهي لن تتغير ولن تتبدل مهما طال عليها الزمان. فشعورها نفس الشعور تجاه كل من كان لي نظيراً في الخلق. من يومنا هذا وإلى يوم النشور.
والسلام لروح الثابتين على آدميتهم على الدوام تجاه كل أبناء جلدتهم من بني الإنسان.
وهنيئاً لمن لا يزال إنساناً.
عن صحيفة رأي اليوم