خالـد شـــحام*
ستدخل حرب غزة إذا جاز المصطلح بوابةَ التاريخ كأول حرب تجتمع فيها خلاصة الوحشية والهمجية وجرائم الإبادة التي كانت عار البشرية الأولى في الماضي، ستكون هذه الحرب أيضا هي العلامة الفارقة في استخدام القوة الضاربة الساحقة للنظام العالمي الجديد الذي أشهر أنيابه في هذا العالم مع مطلع العام 2020 واستمر حتى اليوم في ارتكاب الجرائم والعبث بالأمن العالمي، ستكون هذه الحرب كذلك هي الأصغر مساحةً ولكنها هي التي ستغير الإقليم بأكمله إلى تداعيات لا يعلمها إلا الله .
المجرم نتانياهو طليع هذا النظام يركز في خطاباته ، وخاصة تلك التي ألقاها أمام الكونجرس الأمريكي على نقطة أساسية بأن هذه الحرب التي يخوضها هي صراع حضاري بين الحرية والقيد وبين الهمجية والحضارة ، وكما ترون فهذا الخطاب هو خطاب تدويري مأخوذ من نفس الجماعة ويشمل كل الدول العربية المحيطة بفلسطين ولكن ضمن تغليف مختلف ، الحقيقة أن هذا المجرم مصيب في وجهة نظره هذه لأن هذه النقطة بالتحديد هي الجذر الأساسي لكل السياق ولكن مع فارق وحيد معكوس وهو أنه هو ومن يمثلهم وينوب عنهم هم من يقعون في الجانب اللاإنساني والوحشي والهمجي من قسط التاريخ وهم الذاهبون إلى الدمار والهلاك.
إن كان هنالك من معلم يميز المرحلة التي نعاصرها فهو معلم الإنحطاط الذي يشهر نفسه كل يوم أكثر في كل الاتجاهات العسكرية والسياسية والثقافية، إنه الانحطاط العظيم حيث تثور حمية الرئيس الأمريكي لمقتل اسير صهيوني أمريكي ويهدد ويتوعد قادة حماس بدفع الثمن فيما هو يدوس حقوق شعب بأكمله يتعرض للقتل والتهجير، إنه الانحطاط العالمي حيث تتفضل بريطانيا ملكة الشر في نزع ترخيص 30 سلاح من أصل 350 يتم السماح بها للكيان الصهيوني لمواصلة جرائمه، انه زمن الانحطاط الأعظم لأن شعبا مثل (الشعب الاسرائيلي) يتظاهر بمئات الالاف لإطلاق سراح أبنائه الذين لا يزيدون عن المائة بينما يؤيد ويقبل بذبح خمسين ألف فلسطيني والتسبب بأكبر مأساة مدنية في القرن الحادي والعشرين، إنه زمن الانحطاط بشهادة مجلس الأمن العالمي الذي يعجز عن فعل شيء حيال قتل وتهجير وتعذيب 2.3 مليون فلسطيني ويتركهم فريسة للجوع والأمراض والظروف اللا آدمية، هذا هو زمن الانحطاط الذي تفوق على كل العصور السابقة .
مع دخول مطلع أيلول الحالي ، حدث تحول مفصلي صغير في مجريات العداون على غزة ، إنه اليوم الذي أعلن فيه العثور على جثث الأسرى الستة وجرت فيه عملية ترقوميا ليتبع ذلك سُعارا صهيونيا في كل الاتجاهات ، تأتي أهمية هذه المتغيرات في ظل ما كان يعتقده العدو استعادته زمام ادارة الساحة وتوجيه الرأي العالمي قسرا نحو غاياته وأهدافه مع استمرار عمليات القتل والتدمير، طيلة الأسبوع الماضي كانت تفاصيل الهجمة البربرية على جنين تشغل واجهة الحيز الإعلامي ذي الصلة بحرب غزة ، وهذه الهجمة وخلافا لموقعها من الخطط المبيتة فهي جزء أساسي من الرد الإشغالي على مقتل الأسرى وعلى مقاطع الفيديو التي تنشرها المقاومة للأسرى الصهاينة الذين قتلوا ، هذه المقاطع التي تحولت إلى صواريخ من نوع خاص لقوى المقاومة لتزيد من ارتباك العدو بأكثر من أي شيء آخر .
في ظل ثلاثية الانحطاط العالمي – انسداد طريق المفاوضات – التآمر العربي والعالمي على القضية الفلسطينية ، تصبح انتاجات محور المقاومة ذات أهمية كبيرة ، خاصة أن الشعب الفلسطيني هو من يذوق الجحيم ويعايش حيثياته وحيدا دون عون ولا ناصر، كيف نقرأ مجريات الأحداث بعد الأول من أيلول الذي تغيرت فيه اتزانات الخوف وبرزت ألاعيب جديدة ؟
1- هل يحفل المخطط الأمريكي فيما لو أن كل الأسرى داخل غزة قد قتلوا ؟ هل يحفل لو أبيد كل (شعب اسرائيل ) ؟ الجواب على ذلك هو : لا بكل بساطة ! إذا ما الذي دفع بكل هذه التغييرات ؟ الجواب السري هو أن هذه الحرب تجاوزت حدود توقعاتها ، وتجاوزت الكلف المادية والزمانية والبشرية التي خُطط لها ! لم يعد من الممكن تجديد عقود الدعم وأصبح من الضروري التخلص من فريق التفيذ الفاشل بكل مرافقيه وبرامجه تمهيدا لجولة جديدة قادمة والسبب الثاني والثالث هو روسيا ثم روسيا .
2-من طرائف الزمان وتجليات العدوان أن نرى ونعاين بأنفسنا كيف أن عصابة الكيان وكلما زاد الخناق عليها تلجأ إلى مكافأة (شركائها ) العرب الذين يدفعون الثمن كلما دق الكوز في الجرة ، فآخر صرعات التصعيد السياسي والتي تصاعد دخانها خلال الأسبوع المذكور تمثلت في إصرار القيادة الصهيونية على احتلال محور فيلادلفيا ورصفه تمهيدا للبقاء فيه ، والغمز بترحيل سكان الضفة الغربية والدفع بهم إلى الأردن وهذا يعني بكل بساطة الاعتداء وبكل وقاحة على السيادة المصرية والأردنية دون أية آفاق واضحة لحجم وخفايا هذا الإعتداء ، أو مبالاة بالاتفاقيات التي تم التعويل عليها لسنوات الرفاه والنعيم .
3-الرسالة الأولى التي حملها 1 أيلول إلى الإدارة الأمريكية والصهيونية تقول بأن المقاومة تدرك جيدا بأن معركة المفاوضات هي أخطر من المعركة العسكرية ، إنها معركة قطف الثمار التي لا يمكن للمقاومة أن تفرط بها أو تتهاون في شروطها ، إنها معركة شعب فلسطين وكل أحرار العالم ، وما قدمته المقاومة هي أوراق قوة لتحسين مكتسبات التفاوض تماما كما يرتكب العدو جرائمه للضغط على المقاومة والظفر باستسلام مبطن من التفاوض .
4-بعد اقتراب العدوان من سنة كاملة من القتل والقصف والفظائع التي تقشعر لها الأبدان ضد أهل غزة لم يتمكن العدوان الأمريكي -الصهيوني من إحداث تغيير في توجهات وآراء أهل غزة او التأثير على قرارهم في التهجير أو نبــذ المقاومة ، بل على العكس ينتظر العدو في مستقبله – إن تبقى منه شيء – جيلا أشد عتيا وصلابة وعنفوانا ، وبعكس ذلك تمكن القائد العظيم يحيى السنوار من إحداث هندسة داخلية في المجتمع الصهيوني ودفعه إلى الانفلات من قالبه الحضاري المُدعى والانقلاب على حكومته وتشكيل جبهة ضاغطة في المستوى الشعبي والمؤسسي وتغيرت نسب الآراء وتوجهات الجمهور الصهيوني حيال الحرب واهدافها ، لقد انتقل الكيان الصهيوني من دائرة الحلم اليهودي إلى دائرة الكابوس اليهودي المنفر والنابذ والمحفز على الهجرة، يمكنكم معاينة التأثير النفسي للسنوار على القائد العظيم نتانياهو وهو يعقد مؤتمريه بالعبرية والإنجليزية ، إنها المرة الأولى التي يُشاهد فيها المجرم نتانياهو يتعلثم من خلف منبره ليدافع عن نفسه بطريقة مبتذلة وافكار سطحية لا ترتقي لمستوى سياسي مبتدىء.
5-إن مفعول كل شريط فيديو تبثه كتائب القسام حول الأسرى الصهاينة وفضح اكاذيب المجرم نتانياهو يفوق في مفعوله كل صاروخ من تلك التي تسقط على غزة ويؤكد بلسـان الأسرى انفسهم بأن قتلهم تم على يد جيشهم المجرم، واذا كان العدو قد نجح في تدمير 90% من بنية غزة فإن غزة قد قصفت تماسك المجتمع الصهيوني وحلف الشيطان وهزت ثقته بنفسه.
6- بعد الصولات والجولات يمكن القول بأن وجود أمثال نتانياهو وبن زفير والأشقر القذر وأمثال ترامب وغيرهم ربما كان شيئا من حكمة “وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم “، هذه الكائنات التي تتمتع بذهنية رجل المليشيات والعصابات هي نماذج مكافئة تماما لــ (حميدتي ) النموذج في نسخته الأصلية بمعانيه وشخصيته وماذا يمثل وبماذا يمكن أن يتسبب ، لدينا في داخل الكيان الصهيوني (حميدتي الآسرائيلي ) السمين ذي النظارتين الدائريتين ، والذي قام بتسليح الألوف من المستوطنين لصناعة ميليشاته الخاصة ومستعد لعقد حربه الداخلية الخاصة عندما يسقط ، ولدينا في الولايات المتحدة (حميدتي الأمريكي ) الذي ينتظر الفوز عنوة في الانتخابات ومستعد لعقد حربه الداخلية في حال فشل في هذه الانتخابات ، هذه الظاهرة الحميدتية هي جزء رئيسي من نسيج الضعف الداخلي الذي سيقود إلى التفكك الداخلي في النظام العالمي الذي يعقد حربه في غزة وكلما صمدت المقاومة كلما اتسعت رقعة الظاهرة الحميدتية.
4- إن المحاولات الحثيثة للحلف الأمريكي -الصهيوني بالقضاء على المقاومة الفلسطينية ومعالجة غزة بشكل نهائي ورفض أي نوع من الاتفاقات يؤكد أن هنالك ما بعد غزة جيوسياسيا ولن يقف الأمر عند حدودها ، لدنيا برنامج متكامل أعلن نفسه وينتظر الخطوة الأولى.
4- إن النصر الذي حجزته المقاومة الفلسطينية مسبقا في 7 أكتوبر حتى قبل أن تنتهي المعركة لا يختلف عن النصر المحجوز القادم من خلال قبول الكابينت المجرم ومن ورائه الادارة الأمريكية بشروط الصفقة الخاصة بالمقاومة والتي ستؤول في النهاية الى الرضوخ التام للعدو .
لقد اصبحت إطلالة بايدن أو كيربي في أي مؤتمر صحفي عاجل لا تختلف عن تلك المؤتمرات الكرتونية الهزلية التي يطل بها وزير خارجية عربي ليعلن عن تحذيره من خطورة السجائر على الصحة ، إن الفشل الذي مُني به الكيان الصهيوني هو فشلٌ أمريكي بالدرجة الأولى أي بتعبير آخر فشل ذريع لرئاسة النظام العالمي الجديد ، فشل ذريع حتى لو عقد المجرم نتانياهو صفقته الإنقاذية مع حميدتي الأمريكي المنتظر، هذا الفشل أعلن عن نفسه باكرا عندما سمحت الولايات المتحدة بحرب الإبادة وطالبت بعقدها على شعب محاصر أعزل دون أن تفكر بالعواقب الفلسفية الكونية التي تحكم الحاضر والمستقبل لها كدولة عظمى ، وعادة وحسب مفكرة التاريخ المكتوبة برماد الأمم تبدأ الحضارات الكبرى بالترنح والسقوط عندما تفقد أعصابها وتصبح ميالة للعنف وحسم معاركها عن طريق البطش والقوة المفرطة غير المبررة ولهذا السبب ربما يجد حراس المستعمرة الأمريكية بأنه صار لزاما عليهم التشدد واللحاق بأكبر قدر من المكتسبات قبل سقوط معقل السيد الأصلي وربما تحمل هذه النقطة الكثير من القوة لتفسير كل المظاهر السياسية الغامضة .
لقد انتهت حرب غزة تحت كل الشروط المعلنة ونحن الان نعايش الشروط الخفية التي تتجلى كل يوم ، في الظرف الراهن كل مكونات أو مقومات وقف الحرب على غزة متوافرة وأخلاقية وضرورة عالمية للاستقرار ولمستقبل كثير من الدول المهددة بالزوال والانجراف في متاهات مجهولة ، ما يحول دون وقف هذا العدوان الإرهابي هو أن حلف الشيطان لا يعلم حتى اللحظة كيف سيتقبل هزيمته مرتين ، مرة يوم 7 أكتوبر الخالد والثانية عندما يعلن استسلامه لشروط المقاومة ويوقف هذا العدوان ، إن نصر المقاومة التي صمدت صمودا استحاليا إعجازيا قادمٌ لا محالــة .
*كاتب فلسطيني
اليمن الحر الأخباري لسان حال حزب اليمن الحر ورابطه ابناء اليمن الحر