السبت , يوليو 27 2024
الرئيسية / اراء / حكايا أيلول السرية..!

حكايا أيلول السرية..!

خالد شــحام*
أيلول أيها الحزن المهاجر، فيك تختلط الذكريات مع السحاب ويتضافر الحنين مع الألم، في نهايات طرقاتك يحدث المفترق ويمضي كل وحده، مضت الغيوم وشردتني ورمت معاطفها الجبال وخبأتني، وطالت سنوات سفرك ووعدتني.
في مقالها بالأمس كتبت السيدة آسيا العتروس الصحافية العربية اللامعة مقالة صغيرة حول بعض ذكريات أيلول حيث تجتمع في هذا الشهر مواجع عديدة، أشهرت منها 11 أيلول حيث خديعة القرن الكبرى، 13 أيلول خديعة اتفاقية أوسلو الفلسطينية، 16 أيلول مجزرة صبرا وشاتيلا والبقية تأتي.
كل واحد من هذه المواجع التي كتبتها السيدة آسيا المبدعة تحتاج تفصيلا مستقلا وتركيزا وفهما وتأملا عميقا للغاية لأن الماضي في بعض الأحيان يبتلع الحاضر ويرهب المستقبل حتى لو كان غائبا، ومن ينسى حكايا الماضي لا يمكنه أن يفهم كائن الحاضر ولا كيف نمت شجرة الخطيئة التي تعشعش في واقعنا، إن مبدا النسقية العلمي يقرر كيف نفهم كل هذه الفوضى وشبكة الخيوط التي تربط ما راح مع ما سيأتي، ومن لا يحسن صعود الدروس يعش ابد الدهر بين الحفر.
رحلة النضال الفلسطيني مثلها مثل كل رحلات نضال الشعوب المقاتلة لأجل حقوقها، مرت في مآزق ومعابر وخذلان ونجاح وتفوق، صعود وهبوط، تآمر لا يتوقف ليلا ولا نهارا، هذه الرحلة النضالية اختلفت عن كل مسيرات النضال للشعوب العربية وغير العربية لأن فلسطين في أسطورة الغيلان منحوتة في ألواح موسى لتروي صدامات التاريخ مع وحش الاستعمار الذي يمتد منذ الطرد من الأندلس حتى يومنا هذا، رمزية القضية الفلسطينية تتعدى تماما فكرة شعب يبحث عن استعادة حقوقه وأرضه، إن بداية القصة تبدأ بفهم من هو هذا المحتل وماذا يمثل وعمن ينوب ؟ هل هي حكاية الخزر واللمم وإحياء الأمجاد التوراتية القديمة أم أنها شيء آخر ؟ تستمر القصة بفهم من نوع آخر يجب أن يتبلور في قناعة كل عربي بأن احتلال فلسطين هو احتلال لكل الأرض العربية الان او تاليا والمسألة مفاوضات مع الوقت فقط، إن قراءة أحجيات الألم لم تعد صالحة للفهم بمبدأ ( البيع بالتجزأة ) لأنها كلها أحجية واحدة ذات مشتقات متعددة، إنها نسيج واحد يحيكه أعداء الامة عبر أقساط من التاريخ مكملين مهمة بعضهم البعض.
في واحدة من محاضراته سُئِلَ المفكر نعوم تشومسكي سؤالا بلاستيكيا : لماذا تقوم الولايات المتحدة بدعم الكيان الصهيوني ( اسرائيل ) ؟ كانت إجابة الرجل كالاتي : ( يجب بأن نتذكر بأن الحاضنة الحقيقية الأسبق للكيان هي المسيحية الصهيونية وليس اليهودية الصهيونية، وهذه هي التي منحت وعد بلفور لليهود ووصفت عودتهم إلى فلسطين بأعظم حدث انجيلي، وهذه الدول ( بريطانيا وامريكيا ) دينية بشكل عميق أكثر من الظاهر، والدول الأقوى في دعمها لاسرائيل هي الولايات المتحدة – كندا -استراليا أي فروع انجلترا ( الانجلوسفير) وهي عبارة عن كتل اجتماعية استعمارية بحتة مؤمنة بعقيدة مسيحية صهيونية سلوكها الاساسي هو إزالة السكان الاصليين وإحداث الأبادة القصوى )
ضمن هذه الكلمات البسيطة التي يقبع في جوهرها الفهم الحقيقي لدور ووظيفة الكيان الصهيوني وعمن ينوب يمكن ان نفهم وندرك جيدا من هو العدو الحقيقي الذي يواجهه العرب، وهل هذه المواجهة مخصصة للفلسطينين وحدهم أم أنها مطلقة بحق العرب والمنطقة العربية وربما العالم بأكمله.
لقد كانت مذبحة صبرا وشاتيلا جزءا من حقيقة هذا الكلام بغض النظر عن التفاصيل اللعوبة الأصغر حجما، لقد تم الاستثمار في جملة كبيرة من الغايات في كمشة واحدة من الدماء الفلسطينية، كان المطلوب الأول من هذه المذبحة مثلها مثل غيرها إبادة السكان الأصليين وتحقيق فكرة الأرض التي بلا شعب، تكريس الفرقة العربية، ترهيب الروح الفلسطينية الى الابد والدفع بها الى هاوية اليأس السحيقة والرعب الأزلي، والهدف الأخير هو التحضير لأرضية صحيحة اسرائيليا من المفاوضات الاستسلامية ضمن رؤية أمريكية لا تحيد عن نفس النهج الذي تم بموجبه تسطيح العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر، اذبح قبل أن تفاوض كي يكون مسرح الاستسلام لائقا بالتنازلات التراجيدية، روح الذبح للهنود الحمر الممتد تحت حواف القرن التاسع عشر هي التي كانت تطل برأسها في مخيمي صبرا وشاتيلا بعد مغادرة المقاتلين الفلسطينين الأبطال، هذه المذبحة كما غيرها في كل مسرح من مسارح اذلال وسفك دماء العرب لم تكن لتكون لولا الفرمان من الإدارة الأمريكية التي تعتنق هذه العقيدة كمذهب وجودي عبر التاريخ من خلال الفيلق العبري المحدث.
في داخل النفق الثاني المليء بالرطوبة للذكرى التالية من أيلول جاءت اتفاقية أوسلو والتي كانت مصيدة أنبوبية الشكل متعددة الثقوب لا مخرج لها، محفوفة برصيد سابق من التخويف وزراعة اليأس الذي تطلب إعداده سنوات مريرة من النضال والخسائر المتبادلة وحبس الأنفاس بين القيادات الفلسطينية والعقلية السياسية للعدو الصهيوني، لم تكن أوسلو على الإطلاق فخا فــذا لإغلاق ملف النضال الفلسطيني بل كانت بنودا خاصة مخصصة لإحكام القبضة على كل عالم العرب، في الذهنية الأمريكية والمنفذة بالأيدي الاسرائيلية كانت تجليات التصور تتمثل في التوقف عن تحضير وكلاء لذبح الفلسطينين من شتى الملل والمذاهب واللغات ونقل هذه المهمة الى الفلسطينين أنفسهم ! اصنع منهم فريقا يسوم الباقي سوء العذاب السياسي والمعيشي ! لماذا تضطر الى التحالف مع كتل خارجية ؟ افعل ذلك بينهم لأنه الأكثر ضمانة ! والبنود الأخرى التي تم دسها في أوسلو كانت أكثر من خلق محاكم تفتيش فلسطينية على النضال الفلسطيني، وهي البنود التي أوهم فيها العرب بأن تحقيق ( السلام ) سيوفر مرابح متعددة التشعبات لكن حقيقة البنود كانت التطبيع السري ثم العلني ثم ابتلاع الأراضي العربية تماما كما حصل مع اراضي فلسطين وهذا هو النهج الذي نعايشه الان بالتمام والكمال، في داخل الحديقة العبرية أيضا تمت هندسة اوسلو كمنشار لتقطيع الترابط الفلسطيني وخلق الصدع الأزلي والاحتراب الداخلي كهدايا مجانية من قطاف العلقم، إن هذه الخديعة لم تضعف وتطعن الجانب الفلسطيني فحسب بل تعدت ذلك وتفشى أوسلو التاسع عشر ليصيب كل القارة العربية بالعدوى العبرية وانهمك أيلول في البكاء وحيدا.
في نفق أيلول الأكثر عتمة وبردا حيث الرقم 11 يمثل اللعنة المطلقة جاءت أحداث هذه المناسبة بالضبط على شكل فيلم هوليوودي في زمن السذاجة والبلاهة العربية التي دفعت بكل المتفرجين إلى التصديق وشرب المقلب عن بكرة أبيه ولكن جورج بوش الإبن لم يقفز وقتها ضاحكا في وجوهنا ليقول لنا بنهاية الكاميرا الخفية بل امتدت وتغلغلت تفاعلات الأكذوبة حتى في جيناتنا وجينات الأطفال العرب الذين يولدون حديثا ولهذا السبب فأجسادنا -لو تم التدقيق في خلاياها – سنجدها مختومة في معمل 11 أيلول الأمريكي الذي أذل وركع العالم وفقا لـفكرة النمر الجريح، كانت تلك هي بدايات المشروع الجديد لإنقاذ الامبراطورية الأمريكية خاصة بعد نفاذ مفعول الحرب العراقية – الايرانية وبعد نفاذ مفعول العشرية السوداء في الجزائر ونفاذ مفعول حرب الخليج الأولى، كان لا بد من خطة ضخمة تتكفل بمعالجة كل التشوهات والعثرات التي ولدتها الخطط السابقة بقصد او دونه، لا يهمنا في هذه الأحداث المفبركة التفاصيل الداخلية لأنها تقيم في المنفى، ما يهمنا هو النتائج التي وصلنا إليها والتي فرضها الحكم العربي على شعوبه وانقلاب كامل منظومات العقائد السياسية الواهية التي كان الأوصياء يدعونها، لقد كانت أحداث 11 أيلول غزوة عالمية تعدت غزوة اكتشاف القارة الشمالية حيث اصبح كل العالم هنودا حمرا مستباحي الدماء ويجب عليهم أن يؤمنوا بالعقيدة الجديدة وإلا تعرضوا للتطهير بالإف 16.
تداعيات وعواقب تلك الأحداث هي التي صنعت وشكلت الجيل الجديد من الحكم العربي ووضعت بين يديه شروط اللعبة قبل أن يقسم القسم، وبالتالي فهذا العالم الذي نعيش في كابوسه الدائم هو في الحقيقة عالم 11 أيلول وفقا للحلم الأمريكي للمنطقة العربية، لقد استنفذ السياسيون الآمريكان فعالية هذه الخدعة لأن ألاعيب جديدة جرى إطلاقها اما الحكم العربي فلا يزال يلعب في ظلالها وسنحتاج خمسين سنة أخرى للخروج من هذه الكوابيس وتداعياتها الممتدة، أخطر ما حدث لنا في اكذوبة 11 أيلول هو أنه تم الفرض علينا بأن العربي والمسلم هو (ارهابي) ولذلك يجب تعديل دينكم ومعتقداتكم ومناهجكم وجامعاتكم وكلماتكم وسنعيد تربية ابنائكم كي تكون متفقة مع ديانة مكافحة الارهاب المنزلة من صلب التلمود، منتجات بشرية صُنِعت على شكل أجيال كاملة رضعت حليب المهانة والذل والضعف، صحافة كاملة وإعلاميون ورجال دين مزيفون لهم سُميَّة أشد من السيانيد يمارسون الكذب حتى اليوم، حياة كاملة تحت البيت الزجاجي الأمريكي الصناعي تشكلت في وعينا وسقطت القومية والهوية وانكمشت حدود الأحلام وتحولنا الى كائنات قارضة صغيرة تهرب شمالا ويمينا من البسطار الأمريكي الذي جاس البلاد قبل أن تأتي بشائر الذين سيعيدون ضبط الميزان.
من مذبحة صبرا وشاتيلا ومرورا بخديعة أوسلو و 11 أيلول وعرجا على احتلال العراق وأفغانستان وجرائم الذبح المستمرة ومسالخ أبو غريب في حللها المستمرة فهي نفس الروح التي ذكرها نعوم في خطابه القصير بكل بساطة، هي روح الإبادة، روح الإبادة التي تغشى بلاد العرب اليوم تحت مسمى مكافحة الإرهاب وتجويع الشعوب وإفقار الفقراء وسرقة مقدرات البلاد وتحويلها إلى يخوت ولوحات فنية وشراء نواد رياضية، نفس الروح التي لا تحفل بألوف الضحايا من المشردين والمهجرين عبر البر والبحر أو ألوف المرضى والمحرومين الذين يعيشون تحت مرتبة الحيوان أو أدنى و الموتى من الزلازل والفيضانات، نفس الروح التي تريد تعرية المراة العربية وإزالة قدسيتها واعتقال صغارها وتسليعها، نفس روح الابادة والتهجير والاقتلاع التي تريد تبديل معتقداتنا ونقل الايمان من القلب والأرض الى المهرجانات والمغنيات وعبدة الشيطان والمنتخبات الرياضية، هذا هو ما يجري لنا في سلسلة واحدة طولها سبعون ذراعا من أعمال التطفيش وزراعة اليأس وتحطيم الروح العربية، هذه هي حكايا أيلول السرية، حكايا إبادة وتنظيف وإزالة السكان الأصليين لأنهم دون درجة التفوق الغربي والانجلوساكسون عديم الرحمة وعديم الإنسانية، هذه هي العقيدة الصهيونية التي تلحفت بالمسيحية في فترة ما وتتلحف اليوم باليهودية وفي القريب العاجل جدا ستتحور إلى الصهيونية – الإسلامية في الحاضنة الجديدة عقب التطبيع الكبير، وفي قلب أيلول المنسي بين الورق الأصفر ثمة آآه كبيرة من المقياس الكوني.
مع كل هذا الحزن وأوراق أيلول المغموسة بالشقاء سيأتي بلسم الشفاء، هنالك دوما غد جديد تشرق فيه شعاعات الشمس لتمحو مساحات الليل الطويل لهذه الأمة، لأن الله موجود وأكبر وأعظم من كل ذلك، هنالك شمس ستشرق لتزيل كل بقع الدماء التي ارتكبوها بحق الشعوب العربية، من ظلمات الاثام التي بنوها في اجيال الردة سيخرج ويولد محررون جدد ومفكرون جدد ينسفون كل هذا الرصيد من العفن التاريخي والجبن المكوم بحجم الجبال ويربتون على الجرح المكلوم، كل مفكر يولد وكل واع يدرك ما يعيش هو أمل جديد.
مذابح صبرا وشاتيلا وكما مثلها كل مذابحهم ستكون ميلادا لأجيال جديدة ترد الصاع صاعين وتدك الأرض من تحت أقدامهم، خديعة أوسلو وما آلت إليه حولت كل بلاد العرب إلى اجهزة أمنية في وحدة واحدة، صحيح أنها قصت أجنحة طائر الفينيق الفلسطيني لكن من سوء حظهم وحظ الوكلاء والأصلاء بأن هذا الطائر يمتلك في جيناته الصعود من الرماد والنار وسيحلق فوق جبال الكرمل ليوحد الأمة من جديد بأجنحة جديدة، أحداث 11 أيلول التي أهلكت الحرث والنسل وسامت شعوب العرب سوء العذاب لن تبقى إلى النهاية لأن الشعوب التي تحمل روح ونهج الإسلام وموروث الشهامة والكرامة لا يمكن أن يمحوها شيء او يفنيها شيء حتى لو حرقوا بلادنا بقنابلهم الذرية، سيعود القمح لينبت وستعود الزهور لتملأ حقولنا من جديد وتتبسم إشراقات أيلول فرحا ونصرا.
*كاتب فلسطيني

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

يوم عرف العالم حقيقة الكيان!

  د. أماني سعد ياسين* ما شعرت بالأمل يوماً كهذا اليوم! نعم، ما شعرتُ بالأمل …