خالد البوهالي*
أطلقت أذربيجان عمليتها العسكرية البرية بإقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه مع أرمينيا بداعي محاربة الإرهاب، باستخدام أسلحة عالية الدقة عند الخطوط الأمامية وفي العمق في إطار هذه العمليات، بحسب ما أورده بيان وزارة الدفاع الأذربيجانية.
وتأتي هذه العملية العسكرية في وقت تشهد فيه العلاقات الروسية الأرمينية توترات بعد قرار حكومة رئيس الوزراء أرمينيا نيكول باشينيان الاستدارة مرة أخرى نحو الولايات المتحدة الأمريكية معللة بأن موسكو عاجزة عن السيطرة ممر لاشين أو أنها لا تريد ذلك، وأن الاعتماد على موسكو في ضمان أمنها كان خطأ استراتيجيا، فضلا عن قيامها بإجراء مناورات عسكرية أطلق عليها Eagle Partner
وزيادة على ذلك، قامت زوجة نيكول باشينيان بزيارة إلى كييف حاملة معها مساعدات إلى أوكرانيا، حيث اسْتُقْبِلَتْ من طرف الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي وزوجته، ما عُدَّ تحولا في موقف يريفان من الحرب الروسية الأوكرانية، بعد مدة من الحياد بين الطرفين المتحاربين الشيء الذي أثار حفيظة موسكو.
تعود بنا الذاكرة إلى 18 أبريل/نيسان 2018 عندما قام الصحافي نيكول باشينيان وزعيم حزب العقد المدني بالثورة المخملية بدعم من الغرب، أطاحت بحكومة سيرج سركسيان الموالية لروسيا، في مسعى من الغرب للاقتراب من روسيا جيوسياسيا في حدائقها الخلفية – أو الخارج القريب كما تسميه موسكو – التي كانت تشكل في زمن ما أحد مناطق الاتحاد السوفياتي السابق.
ظن نيكول باشينيان أن الابتعاد عن روسيا، والتماهي مع السياسات الغربية سيخرج بلاده من دائرة التخلف وسيجعلها من أرمينيا دولة مزدهرة وقوية، ما قد يؤهلها إلى الدخول إلى الاتحاد الأوروبي. في جهل تام لقواعد السياسة الدولية وتشعباتها، وقراءة سيئة للوضع الإقليمي.
وأول شيء قام به باشينيان هو عملية تطهير في صفوف المدنيين والعسكريين، حيث أقصى الموالين لروسيا من كل المناصب المدنية والعسكرية، واستبدالهم بشخصيات من المجتمع المدني ولا خبرة لهم في مجال السياسة، وتسريح العديد من خيرة الضباط الأرمينيين الدين تدربوا في روسيا، ولهم خبرة عسكرية، في مقابل استقدام ضباط آخرين من ذوي الرتب الصغيرة وترقيتهم الى أعلى الرتب العسكرية. دون المرور على باقي الرتب الأخرى. ما كان له الأثر السيء على حرب ناغورنو كاراباخ فيما بعد.
بعدها بسنيتن اندلعت الحرب بين أرمينيا وأذربيجان، حول إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه بين البلدين، طلبت يريفان من موسكو تفعلي بند الدفاع عنها فردت موسكو بأن اتفاقية الدفاع المشترك مع أرمينيا تشمل فقط الأراضي الأرمينية، ولا تمتد إلى الإقليم المتنازع عليه مع أرمينيا، ما افضى إلى هزيمة أرمينية عسكرية ساحقة.
حينها اتخذت الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة، موقفا سلبيا مما يجري في تلك المنطقة، إذ بدت عاجزة عن اتخاذ أية إجراءات ضد أذربيجان، باستثناء التصويت الرمزي لمجلس الشيوخ الفرنسي على الاعتراف بإقليم “أرتساخ” (ناغورنو كاراباخ) دولة، الذي لا يحدث أي أثر قانوني، عكس حكومة باكو التي كانت مدعومة من تركيا والكيان الصهيوني ومزودة بترسانة عسكرية متطورة كان لها الفضل في تحقيق الانتصار على يريفان.
في تلك الوقت كانت القيادة الروسية بذكائها تراقب الوضع العسكري على الأرض، ليقينها أن ميزان القوى يصب في مصلحة أذربيجان لذا لم تتدخل إلا بعد أن أيقنت أن الهزيمة مَحِيقَةً بأرمينيا، فتم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار برعاية روسية، كَرَّس الهزيمة العسكرية الأرمينية، تَضَمَّنَ إرسال قوات روسية قوامها 1960 لحفظ السلام في الإقليم. وإعادة أرمينيا إلى أذربيجان مقاطعتي كلبجر، ومقاطعة لاتشين. مع إبقاء الممرات مفتوحة أمام حركة السلع والبضائع من وإلى البلدين.
هذه الهزيمة المُرَّةُ، ألقت بظلالها على الشارع الأرميني الذي خرج في مظاهرات احتجاجية صاخبة منددة بالهزيمة، واصفة رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان ب “الخائن ” بسبب توقيعه لاتفاق وقف إطلاق النار وتحمليه كامل المسؤولية في ضياع إقليم أرتساخ، ما كان سيعصف بمستقبله السياسي.
ويأبى التاريخ إلا أن يعيد نفسه، لأن نيكول باشينيان لم يستفد من درس 2020، وعاد ليكرر ذات الأخطاء التي ارتكبها في تلك الفترة، وأفضت إلى هزيمته، من قبل الابتعاد عن روسيا والارتماء في أحضان الغرب مرة أخرى، إضافة إلى عدم قراءة الوضع الإقليمي والدولي قراءةً جيدةً. ما سيفضي إلى ضياع ما بتقى من الإقليم الذي لازال تحت سيطرته لفائدة أذربيجان، سيما وأن آخر الأنباء إلى حدود كتابة هذه السطور، تفيد أن أذربيجان سيطرت على 60 موقعا جديدا.
ويبدو أن العملية العسكرية الأذربيجانية ما كان لها أن تتم لولا الضوء الأخضر الذي تلقته باكو من موسكو لتأديب حكومة يريفان ولجم تصرفاتها، الذي يبدو أن مستقبل رئيس وزرائها السياسي على المحك قد تفضي إلى قيام ثورة أخرى قد تطيح بحكمه، وتقديمه إلى المحاكمة بتهمة الخيانة العظمى، لأن الشعب الأرميني لن يتقبل هزيمة أخرى أمام عدو لدود كأذربيجان. ما قد يسمح لعودة الحرس القديم الموالي لموسكو الى سدة الرئاسة.
ختاما، ما لم يفهمه حكام يريفان أن الروس يتعاملون مع الأوضاع بصبر وأناة مع خصومهم، ويتمتعون بنفس طويل، وعندما يبلغ صبرهم مداه، لن يترددوا في توجيه ضربات قاصمة إلى الخاصرة الرخوة لأعدائهم أو من يحاول العبث في مجالهم الحيوي. لكن يبقى السؤال الأهم، هل سيعيد رئيس الوزراء الأرميني تقييم سياسته الخارجية على ضوء ما يجري، أم سيسير على نهجه الجديد؟ الجواب في قادم الأيام.
*كاتب مغربي وباحث في الشؤون الروسية.
شاهد أيضاً
إلى محلّلي الفضائيات..!
د.عديل الشرمان* صحيح أن مشاهد القتل والقصف والدمار والإبادة التي نشاهدها على شاشات التلفزة العربية …