السبت , يونيو 1 2024
الرئيسية / اراء / علمينا يا غزة كيف نقفز خارج صندوق الهزيمة!

علمينا يا غزة كيف نقفز خارج صندوق الهزيمة!

خالد شــحام*
ذات سنة من سنوات الفج العميق وفي محاضرة مفقودة الزمان والمكان كانت تلك المرة الأولى التي يسقط فيها على سمعي مصطلح ( التفكير خارج الصندوق ) ، فهمت وقتها معنى المصطلح ضمن القشرة السطحية للوعي ولكنني لم أتمكن من إدراك عمقه فقد كنت أعيش داخل صندوقي الخاص الصغير بلا توقف ولا شبع لأنه كان يبدو أكثر أمانا وبساطة ، تطلب الأمر سنوات شائكة حتى بدأت تسلق الجدران إلى الحافة ، تعلمت أن هنالك جملة مصطلحات ومفاهيم تشكل النخاع الشوكي لجوهر الفكر واستراتيجيات الحياة السوية ، كان هذا المصطلح ولا زال واحدا منها ، تعلمت في محاضرات الذين تتلمذت على أيديهم بأن التفكير خارج الصندوق يعني بأن تكسر أنماطك التقليدية في التفكير والحلول ورؤية الأنماط وتحاول التمرد على قوالبك الجامدة كي تتمكن من النفاذ والارتقاء بأحكامك ومقترحاتك وقدراتك ، تعلمت أن الصندوق هو شيفرة ضعفك وأفكارك البالية وأساليبك القديمة والحبس الذي تسور به طاقاتك .
مع عبور سنوات الثلج تمكنت من اكتشاف نفسي لأول مرة خارج صندوقي لأرى عالما جديدا و لأفهم أن هذا المبدأ يتمدد مثل شجرة مورقة طويلة الأغصان ، فخاصية الخروج من الصندوق لا تتعلق بالتفكير فقط بل يمكن للأشياء والظواهر والقوى والأحداث أن يكون لها عقل وقرار و أن تفلت من صندوقها وعند ذلك لا يمكن لمنحنى التنبؤ ومعادلات الرياضيات أن تتوقع التوابع .
في العدوان على غزة نمت الدالية الفلسطينية في غفلة من الزمان وتطاولت عناقيد العنب الأسود الحلوة والمرة والحامضة ، قطوف كثيرة علينا تعلم طعمها وفهم ماهيتها ، في داخل غزة حصلت المعجزة الكونية المنتظرة وقفزت كل الأشياء خارج صناديقها التقليدية وتداعت سياقات التاريخ نحو حدث فاتح لا سابق له وقالت لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ، وحال بيننا المعبر فكنا من المغرقين .
في داخل غزة قفزت الشهادة بتعريفها من صندوقها الدنيوي والديني وأصبحت نمطا من حياة ذات أجنحة مثنى وثلاث ورباع وأصبح هؤلاء جيشا يحتشد للقاء العظيم ، جيش الأطفال الشهداء هو الذي يحمي هؤلاء المقاتلين ويوجه قذيفة الياسين ويرشد القسام إلى وجهته حيث قفزت فيزياء المقذوفات من معادلات نيوتن في الميكانيكا وارتقت في باب الشهادة الميتافيزيقية ولم يوجد أي تفسير يمكنه أن يقدم ميكانيزم اختراق قذيفة صغيرة لدرع بسماكة 30 سنتمترا من الفولاذ االمحصن غير ذلك.
في داخل غزة فقدت الصور عقلها ورمت بنفسها من الصندوق وانتحرت على كل المتفرجين كي تعاقبهم جميعا ، صور الاكفان البيضاء والزرقاء حيث يصفق المتفرجون على جراحك المصبوغة بالأزرق ، صور هستيرية لمقابر جماعية للشرف والمرؤة والشهامة العربية وحقوق الإنسان العالمية تدفنها الجرافات بالتراب البحري ، صور سعة البحر لأمهات يحتضن الوجوه المشرقة الراحلة والحزن تمـده سبعة أبحر حيث انكسرت الملائكة دموعا واحتبس البحر موجه ولولا أن أمسك الله على غضبه لأغرقنا بلا رحمة ، صور من عالم الآخرة لمقاتلين يركضون حفاة دون زاد أو يرحلون ساجدين ، لا شيء يقيهم إلا رحمة الله يعانقون الموت والفولاذ ويثقبون جسد الصندوق الاسرائيلي.
الجريمة في غزة خرجت عن الصندوق ايضا في الكم والكيف ، اليوم بالتمام والكمال أعلنت النازية والفاشية والوحشية والهمجية أنها بريئة من أفعال (اسرائيل ) ، الوحوش الضارية وفصيلة الحيوان تعلن استحياءها من جرائم هؤلاء وتعلن براءتها من السادية الأمريكية ، ابليس بنفسه وجنده من الشياطين يعلن بأنه قد سلم رايته لآمريكيا و ( اسرائيل ) وربما في القريب العاجل سيعلن توبته ورجوعه إلى الله لما رآه من أفعال أمريكيا وفنون جرائمها و كذبها ونفاقها وخداعها اللامتوقف ، لم يكتف هؤلاء الأوباش والحثالة بقتل واحد وعشرين الفا بل إنهم يَتَحَدون اللهَ والعباد والعالم بأفعال مشينة وبالغة في الخطيئة والإثم والحقارة التاريخية تشاركهم في ذلك بريطانيا وفرنسا وألمانيا ، يسرق العدو جثث الشهداء ويقوم بإعدام الرجال أمام ابنائهم وزوجاتهم ، يطلق النارعلى المسعفين وحتى سيارات الاسعاف ، يعرون المدنيين ويصورون ذلك ، يسمون أفعالهم هذه حربا ! حرب على ماذا أيها السفلة ؟ على مدينة محاصرة مجوعة مليئة بالفقراء المحرومين ؟ حرب على ماذا يا أبناء القردة ؟ هل منع الغذاء والدواء هو حرب ؟ أي حرب هذه أيها المجرمون ؟ إنما أنتم تعتدون على سنن هذا الكون وتأكلون طعام الموتى وتشربون من غِسلين وإنكم لصالو الجحيم !
بمعية حمى القفز من الصندوق التي أشعلتها غزة لم تنس الخيانة العربية حظها ايضا حيث أنها قفزت خارج الصندوق بدعوى أن حقها ليس ناقصا ! وأبدعت في مستويات جديدة من التردي والانحطاط والسبق نحو قاع التاريخ متفوقة على نفسها ، لم تعد لدينا صفقات خفية واتفاقات خلفية و تطبيع علني وتنسيق أمني ، لقد تجاوزنا كل ذلك وصرنا نشاهد أنظمة عربية تتحول الى فيالق في جيش العبرية ومؤازرته ودعمه ، صرنا نشاهد قيادات عربية تدفع مليارات من الدولارات لتعزيز دويلة الكيان والحيلولة دون انهيارها اقتصاديا وتغطية نفقاتها العسكرية على غزة ، لقد انفجر صندوق الخيانة من شدة الضغط والتهافت فيه ورمى في وجوهنا أبطال السلام المكللين بدماء غزة يتوسطون بين المقاومة واعداء الأمة جمعاء ، انفجر وأخرج لنا القيح الخياني والوجوه التي لم يعفها الشيب من استمراء العمالة والرذيلة السياسية ويأملون أن يكونوا خدما في حلم ما بعد غزة .
في داخل غزة أسماء المدن والأحياء قفزت من صندوق حروفها وأمست معزوفات خالدة على السمع أرقى من كل معزوفات الموسيقى العالمية : جباليا – الشجاعية – خانيونس – حي التفاح – تل الزعتر – دير البلح – بيت حانون …. كل واحد من هذه داس على أسماء مزيفة مثل كييف – زاباوريجيا – خيرسون … وكنسها تحت السجادة ثم أصبح أيقونة للصمود ضد التجويع والحرمان الطبي واللهب المسكوب وبطولات المدنيين الذين لم يكسرهم الموت والقصف النذل ، كل واحد من هذه الأسماء صار مضربا للمثل في بطولة هذا الشعب وصموده الأسطوري الذي قفز بسرعة قياسية خارج كل صناديق الحكايا الفلوكلورية العالمية التي تُروى قصصا قبل النوم .
في داخل غزة كان الشيء الذي حقق أكبر وثبة خارج كل صناديق العرب وصناديق الأمريكان المنتشرة في كل مكان هو أبناء فلسطين ، هؤلاء الذين وثبوا فوق سور الخوف والرعب الاسرائيلي والخذلان العربي والموت الأمريكي ، هؤلاء الأبطال الذين تحولوا من عمال ومزارعين وطلاب جامعات إلى جنرالات حقيقيين ومرغوا أنف (اسرائيل ) بتراب غزة ، في داخل غزة تحولت أسماء عادية إلى أيقونات بطولية حفظها العالم كله واحترمها لأنها خرجت من صندوق الذل والمهانة وكسرت كل القيود ، السنوار ، الضيف ، أبو عبيدة …….كل هؤلاء صاروا الان نجوما في سماء التاريخ .
غزة نقلت عدوى القفز والاستطاعة إلى كل هذا العالم الذي يتحضر للمعركة الكبرى بيننا وبينهم ، معركة الخلاص والنهاية ، يسجل التاريخ لليمن التاريخي ولأنصار الله ولشعب اليمن العظيم المجد والبطولة بكسر الأغلال والخروج عن الصندوق الأمريكي وتحديهم للغطرسة الصهيونية ووقوفهم مع شعب غزة ولا نستثني من ذلك المقاومة الاسلامية في لبنان والعراق .
غزة الان تفتح كل الصناديق التي كانت مغلقة لسنين طويلة بعصا سحرية اسمها الكرامة والبطولة والصمود وتنادي كل شعوب العرب والمسلمين لتحقيق القفزة الكبرى عبر جسر طوفان الأقصى قبل فوات الأوان ، المطلوب الان وعلى الفور من الشعوب العربية أن تكسر الصندوق أو تجد الطريق للقفز خارجه بسرعة ودون تأخير لأن النصر لن ينتظر أكثر، والتاريخ لا يرحم المتخاذلين والخائفين ، مطلوب الان من المقاومة العربية القفز ايضا خارج الصندوق، لم يعد يكفي تصريح أو فعل صغير او قصف عن بعد او على الاطراف ، فلتتحرك كل الجحافل وكل المجاهدين وكل وسائط القتال ولتقتدوا باليمن البطل ولبنان الحر .
الشيء الجدير بالذكر أن هنالك قانون في الكون يسمى قانون التناغم او الإتساق ودون الخوض في تفاصيله أو فلسفته إلا أنه يوحي بان الأحداث الصحيحة المسؤولة عن إعادة الاتزان تلهم بعضها البعض أو تسوق بعضها البعض إلى نفس المآلات والتوافقيات مهما فعل البشر ، وعليه فالمنطقة العربية مؤهلة ومرشحة لإحداث أكبر قفزة خارج الصندوق ستحدث بعد فشل محاولات الربيع العربي الذي وأده النظام الرسمي بسرعة واحتال عليه وحوطه بصناديق داخل الصناديق ، لا يغرنكم الانبطاح ولا التعاون مع أعداء الأمة في حصار المقاومة وحصار فلسطين والقضاء على مشاريع التحرر، كل هذه الأنظمة التي تستمد شرعية (الانتخابات ) او البقاء من أمريكيا تنتظر قفزة نهائية من شعوبها عليها ، قفزة من صندوق أجهزة الأمن والاعتقال والرقابة وقوانين قراقوش والتحطيم الاقتصادي وسرقة البلاد إلى التحرر وكسر القيود والإغلال ، قفزة ستطيح بكل هؤلاء الذي خذلوا غزة وشعوب العرب وتآمروا على قتل الحلم العربي واستيراد حقوق المواطن العربي وليوم المظلوم على الظالم أشد وبالا وسعيرا.
لقد قفزت فلسطين كلها من صندوق النظام العربي والاسرائيلي والأمريكي بعد يوم السابع من اكتوبر، وبهذا الحدث فأشياء كثيرة هربت إلى دهاليز صناديق أصغر ، إذا راقبتم جيدا وجه المجرم نتانياهو منذ بداية هذا العدوان وحتى الان فيمكنكم قراءة معالم الهرم والذبول والخسران في تجاعيد وجهه الذي يذبل كل يوم أكثر، لقد قتل ثلاثين ألفا من الأبرياء في ضمير الغيب ولكن غزة قتلته ، قتلت روحه وحجزت له مقعدا دائما في السعير وخسرانا عظيما في الدنيا والاخرة هو وكل حراس مملكة اسرائيل ، أفقدته عقله ووضعته في صندوق صغير لم يعد قادرا على الخروج منه مهما فكر وفعل ، نتانياهو وبايدن وغالانت وغانتس وسائر الأسماء الاوروبية أو العربية التي يكمن في جيناتها الولاء للعبرية كلها دخلت صندوقا صغيرا ضيقا جدا من التاريخ حيث تختم وتنبذ ، كل المنظمات الأممية والمحكمة الدولية واراجوزات حقوق الإنسان وخدعة القوانين الدولية كلهم صغروا وتقلصوا ودخلوا بيت النمل وانكمشوا تماما أمام عظمة هذا الشعب، في غزة قفز كل شيء منها خارج الصندوق وارتفع ثمنه الكوني ومكانته الوجودية لكن الشيء الوحيد الذي ينكمش أكثر وسيعود إلى صندوق الجيتو الذي خرج منه هو هذا الكيان الذي بدأت نهايته وهذه القدم الامريكية الهمجية وتجبرها في بلادنا.
*كاتب فلسطيني

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

الإنكار الامريكي لجرائم الحرب!

الرئيس. علي ناصر محمد* مرّت حتى يومنا هذا 31 مايو مائتان وثمانية وثلاثون يوماً متواصلاً …