أنس السبطي*
شهد المغرب غليانا شعبيا استثنائيا حرك المياه الراكدة في مجال التضامن مع القضية الفلسطينية ذكرنا بزمن التفاعل مع الانتفاضة الثانية، ولئن دفع ذلك الاحتقان السلطات المغربية آنذاك إلى إيقاف التطبيع الرسمي وإغلاق مكتب الاتصال في العاصمة، فإن المفارقة أن الحراك الحالي لم يحرك ساكنا عند المسؤولين المغاربة، فعلى العكس من ذلك فقد التزم المغرب في بدايات الحرب بالحياد السلبي مساويا بين مغتصب الأرض والضحية كأن الأمر لا يعنيه، كما دفع بأحد الوجوه البارزة في مجال صناعة البروباغندا المخزنية لترويج شعار ” كلنا إسرائيليون”، وقد سمح لحاخام الدار البيضاء بإقامة صلاة تضامنية مع الجيش الصهيوني في الوقت الذي يضيق فيه على خطباء الجمعة في التعبير عن استنكارهم للمجازر الصهيونية.
هذا التعنت الرسمي الذي أظهره برفضه الاستجابة لمطالب الشعب المغربي بخصوص إسقاط التطبيع جعله يضيق بالاحتجاجات بعد أن انتزع المغاربة حق التضامن مع إخوتهم الفلسطينيين في تحد لحصار خانق دام سنوات عجاف، ومع ذلك فقد ظل يتحين الفرص لمنع وقمع الأشكال الاحتجاجية ما أمكنه ذلك، فحتى المسيرة المليونية الأولى في الرباط التي نظمت بعد طوفان الأقصى حرض عليها منابره الإعلامية ولولا الحشود الهائلة التي ألجمته ما تراجع عن موقفه، على أن هذا التراجع يبقى تراجعا تكتيكيا فالرسالة الضمنية التي بعثها المخزن للجميع هي أنه أمام قوس فتح على غير رضاه وسيغلق في أقرب وقت مع فتور الشعب المغربي أو مع هدوء الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة مكررا سيناريو التفافه على هبة المغاربة تفاعلا مع عملية سيف القدس قبل سنتين.
الحقيقة أن ردود أفعال الصهاينة الممتعضة من حراك المغاربة تفسر جزءا من التفاعل غير المشرف للمخزن مع العدوان على غزة، والذين نصبوا أنفسهم أوصياء على المغرب، فقد أصبح الجانب الرسمي طوع بنانهم منذ مدة، بل وتعدى طموحهم إلى الطمع في تغيير جلد الشعب المغربي برمته، حيث أضحوا يستكثرون عليه تنظيم الوقفات والمسيرات المناصرة لفلسطين التي درج عليها منذ عقود.
وهذا لم يعد مستغربا من الكيان فسوابقه أكثر من أن تعد، وما دفعه بممثله الدبلوماسي لزيارة المناطق المنكوبة بفعل الزلزال الأخير قبل أي مسؤول مغربي أو سفير أجنبي إلا تعبير فاضح عن فداحة الاختراق الصهيوني للبلاد، حيث يتضح يوما بعد يوم أن التطبيع كلمة ملطفة عن حقيقة ما يجري في المغرب، وهو ما جعل معركة إسقاط العلاقات مع الكيان الصهيوني تتجاوز العناد المخزني المحلي المعتاد في معاكسة تطلعات المغاربة ليتحول إلى قضية دولية، الشيء الذي أصبح الشعب المغربي معه ملزما باسترجاع سيادته على أرضه بعد أن أدخل المخزن المغرب إلى عصر الحماية الصهيونية.
لذلك فإن وتيرة الكفاح ضد حرب الإبادة الصهيونية يجب أن تتناسب مع حجم الاختراق الصهيوني للبلاد وهو ما لم يحصل، فلئن سجلت الهيئات التضامنية مع فلسطين خرقا لبعض الخطوط الحمراء المخزنية إلا أنها لم تكن كافية للقطع مع الزمن العبري الذي دخل فيه المغرب، ولم تخرج عن إيقاع احتجاجات ما قبل التطبيع؛ فالملاحظ أن حالة الغليان الشعبي المصدوم ببشاعة ما كان يتابعه من صور ومن فيديوهات عن الأوضاع في غزة لم تستثمر استثمارا أمثلا في حراك ممتد باعتصامات في كل الساحات مع عدم مغادرتها حتى إلغاء كل الاتفاقيات الصهيونية.
فقد اختاروا أن يأخذوا أوقاتا مستقطعة حتى فترت الهمم وتعودت الجماهير على المشاهد المأساوية، بل إن ما بعد مسيرة 15 أكتوبر التي عُدَّتْ بمثابة استفتاء شعبي لدعم خيار المقاومة ولرفض كل أشكال التنسيق مع الصهاينة شهد تراخيا لا مسوغ له، فتوقف الحراك لأيام في معظم المدن المغربية كأن هيئات التضامن مع غزة قد تمكنت من إنهاء الحرب عليها ومن القضاء على التطبيع، لتتراجع وتيرة التضامن بشكل كبير إلا في محطات معينة وينصب تركيز تلك الهيئات على تسجيل حضورها أكثر من التأثير الفعلي في صانع القرار المخزني.
اللافت أيضا هو مستوى السقف المتدني في خطاب فئات من المناهضين للتطبيع، فلئن هاجم بعضهم تطبيع النظام المغربي فقد تفادى كثيرون الإشارة إليه، بل إن هناك من برأ المخزن وجعله ضحية تستهدفه المخططات الصهيونية في تحليل مبتذل يتجاهل العلاقات التاريخية بين المغرب الرسمي والكيان الصهيوني ويغض الطرف عن حجم الحماسة التي أبداها رموزه من إخراج هاته العلاقات إلى العلن والتي تورط فيها جل مسؤوليه في مختلف المجالات.
وهكذا استغل الفرصة عرابو التطبيع من “مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي” لتبييض صفحتهم والظهور بمظهر المتعاطف مع فلسطين وتمييع قضية مناهضة التطبيع وإفراغها من دلالاتها وتحييد المخزن من جرم ربط الصلة بالكيان الإرهابي، وبعد أن تمكنوا من الحفاظ على مكانتهم بين جمهورهم عادوا ليصرفوا انتباه أتباعهم عن العدوان على غزة بتركيزهم على مواضيع أخرى.
الخلاصة أن مناهضي التطبيع قد ضيعوا فرصة ذهبية لإخراج المغرب من المستنقع الذي غرق فيه بفعل افتقاد الجرأة على تصعيد الفعل الاحتجاجي، ومع ذلك يمكن تدارك الأمر بالعمل على حصار الفعل الخياني باستثمار الذاكرة المختزنة لآلام وأوجاع أهل غزة عند عموم المغاربة وحشدهم ضد استئناف اللقاءات التطبيعية وتفعيل المقاطعة الاقتصادية في مواجهة الشركات المغربية المتورطة في علاقات تجارية مع الجانب الصهيوني وحث التجار على عدم التعاطي مع السياح الصهاينة، وهو ما يستلزم تعبئة دائمة من أجل الحفاظ على نبض المجتمع المغربي من أية نزعة تحرفه عن بوصلته تجاه قضية أمته المركزية ومن أجل عزل موقف السلطة عن المجتمع.
*كاتب مغربي
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …