عبد العزيز البغدادي*
كثير من القضاة والمحامين يفهمون كون المحاماة عوناً للعدالة بمفهوم يذهب إلى اعتبار القضاة وحدهم يمثلون العدالة وأن المحامين ليسوا سوى عون لهم ورهن مشيئتهم وكأن علاقة المحامي بالقاضي علاقة التابع بالمتبوع والعدالة وصفة جاهزة مرتبطة بشخص القاضي يتصف بها ويتسلح بها أي قاضِ فيمنحها لمن يشاء ويشهرها في مواجهة من يشاء ويمنعها عمن يشاء، وهذا الفهم يضر بالقضاة وبالعدالة وبمهنة المحاماة أيما ضرر ويخلق لدى القضاة حالة من الزهو تبعدهم عما يوصل للعدالة، مع أن صراط العدالة يعتمد على بلورة مفهوم إيجابي خلاق للشراكة الصادقة بين القاضي النزيه وبين المحامي الذي يحترم مهنته، وهي شراكة تجعل كل من طرفيها عوناً للآخر لتحقيق موضوعها وهو العدالة في مكانة المحراب للجميع والمقصر منهما في أدائها يجب أن يخضع للآلية المحددة للرقابة والمحاسبة القانونية في إطار وظيفة عامة هدفها الوصول إلى إجلاء الحقيقة التي يتأسس عليها الحكم بعد بسط الأدلة والوثائق والمستندات ومناقشتها وفحصها بالقدر اللازم والضروري، من احترام القانون والتفاهم والمسؤولية وإعطاء روح العدالة ما تستحقه من التقديس والاحترام والتمييز بين ما هو عام وما هو شخصي والربط بينها بصورة تحقق الغاية المنشودة من كل منها، ومهنة المحاماة في إطار هذه الوظيفة من أبرز إن لم تكن أبرز مهنة ينطوي مضمونها على مزج بين العام والخاص، ولهذا تدخل وظيفة المحامي ضمن التعريف الشامل للموظف العام في معظم إن لم يكن مختلف القوانين في العالم وهي ذات العلة التي جعلت كثيراً من قوانين القضاء في العالم تشترط لشغل وظيفة القاضي ممارسة المحاماة لمدة ست سنوات أو نحوها، وإحاطة مهنة المحاماة بروح القداسة ذاتها التي تحاط بها مؤسسة العدالة بكل ما يرتبط بها .
هذا المزج الواعي بين العام والخاص يجب أن يشعر المحامي أولاً بمكانة مهنته ومسؤوليته تجاه قدسيتها وعلاقتها العضوية بالعدالة والتي لا تقل عن مسؤولية القاضي، ويشعر القاضي كذلك بأهمية دور المحامي كشريك كامل الحرية ومسؤول بما تستوجبه الحرية والمسؤولية في تحقيق العدالة، وبذلك يترجم بالفعل والممارسة مفهوم كون المحاماة مهنة علمية حرة ترجمة تمزج بين الحرية والعلم والمسؤولية أيضاً، ورغم حرية المحامي في اختيار القضية التي يقبلها أو يرفضها كوكيل عن من اختاره والطريقة المناسبة للدفاع عن حقوق موكله فإنه من واقع الاحترام لهذه المهنة يجب أن لا يقبل تقمص شخصية من وكله فيما يخالف القانون ويرفض استخدام وسائل غير مشروعة لمحاولة التدليس على القاضي أو تضليله أو استخدام شهود زور أو أدلة أو أساليب قائمة على التزوير والخداع، بل إن ذلك يعرضه للمساءلة المهنية والجنائية انطلاقاً من مسؤوليته تجاه احترام العدالة ويتعامل مع موكله ابتداءً بصدق ومسؤولية ويتخاطب معه خطاب القاضي المسكون بِهَمِ البحث عن كل ما يؤدي إلى العدالة من منطلق يتجلى فيه المعنى المتكامل للمقولة أو الحديث الذي جعل:(النصيحة) بمنزلة الدين كله (الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسولَ الله قال : (لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، صورة تجعل كل مواطن شريك شراكة كاملة ومسؤولة في السلطة واتخاذ القرار.
إن روح المسؤولية لدى المحامي المتشبع بها تحول عمله الخاص الحر إلى عمل أقرب إلى العام الذي هو أساس وظيفة القاضي وجوهر مسؤوليته تجاه المجتمع، وانعدام هذه الروح لدى القاضي يقربه من الانزلاق بالعدالة إلى هاوية تحويل الوظيفة العامة المقدسة التي يمثلها في منصة الحكم أو في أي موقع من مواقع مؤسسة العدالة القضائية إلى موقع المتاجرة غير الشريفة أي إلى استباحة تحويل العمل العام إلى خاص وهو ما يعد مدخلاً للاعتداء المباشر المستبيح لدماء الناس وأموالهم وأعراضهم وسرقة شاملة واضحة الأركان من خلال ما يصدره من أحكام يساوم بكل جرأة على إصدارها، والحديث هنا عن القاضي الذي لا يحترم موقعه كملاذ للمظلومين والمنتهكة حقوقهم أو حرياتهم، أما القضاة المحترمون فهم في موضع التبجيل ومكانتهم محفوظة مصانة شأنهم شأن كل من يحترم نفسه ومكانته ولهم درجة أعلى لعلو مكانة العمل الذي يقومون به في رد الحقوق إلى أصحابها وإنقاذ الأبرياء مما وقعوا فيهم من ظلم سواء بناء على إجراءات باطلة أو تجاوزات مستهترة، والوصول إلى هذه المكانة بحاجة ماسة إلى ذكاء وفطنة وشجاعة ونزاهة لدى القاضي والمحامي على السواء باعتبار العدالة القضائية بجناحيها الرسمي والحر وظيفة عامة تعتمد على الإحساس المشترك بالمسؤولية ووعي كامل بمتطلبات الشراكة بين القاضي والمحامي في معركة ساحتها الوطن وذخيرتها القانون والدستور وهدفها تحقيق العدالة .
(ليس من مات فاستراح بميتٍ * إنما الميتُ ميت الأحياء
وغيابُ الضمير موتٌ أكيدٌ * قد وهبناه مجدنا المفقودٌ)
*نقلا عن الثورة