▪︎بقلم/ فيصل مكرم*
▪︎في كل عام هجري هناك شهر يعيد إلينا الكثير والكثير من الذكريات التي لا يمكن أن تمحيها زحمة الحياة بكل جبروت متطلباتها اليومية وعنفوان تقلباتها.. هو شهر رمضان المبارك الذي ونحن صغارا ننتظر قدومه على أحر من الجمر ، في قريتنا البهية وعلى دروبها الضيقة بين دورها وبيوتها كنا نقضي ساعات النهار بانتظار أذان المغرب لكي نعيش لحظة الأذان الروحانية ونفطر مع الصائمين بشراهة وكأننا لا نقل عنهم عمراً ولا ادراكاً لمايعنيه هذا الشهر بالنسبة لكل مسلم بل وللأمة الإسلامية ، كنا نلعب ونلهو في أزقة ودروب قريتنا وساحاتها الصغيرة وكأننا نستعيد ذكريات عام مضي ونستعد لغدٍ رمضاني جديد ، لم نكن في طفولتنا نتخلف عن الصلوات الخمس في مسجد قريتنا العامرة فالكل شاهدُ عليك إن تغيبت ، ابيك وأمك وأترابك والاستاذ المعلم الذي يلقنّا الدروس في مكتب تابع للمسجد وليس الأمر يقتصر على أيام شهر رمضان فقط بل خلال كل ايام السنة مع ما يمكن استثنائه بوسائلنا واعذارنا وشئ من اكاذيبنا الطفولية التي لا تذهب في مغازيها مذهب الساسة وحالبوا الأوطان ومدمروها، وفي قريتي العامرة بأهلها وبتاريخها وموروثها الحضاري باعتبارها قرية بُنيت على حصن فوق ربوة ودورها تعانق السحاب كناطحات أزليات يكاسرن الرياح العاتية بثبات ويعزفن تراتيل الربيع مع نسائمه الحلوة وعبيره الأخآذ ، كانت الحياة اليومية مختصرة ونقية وعفوية وكأن معلمنا هو من يتوجب علينا تحاشي غضبه وعدم التورط بأي خطأ يستلزم عقوبة من عصاته الممشوقة الخفيفة بيده والثقيلة ألماً على أجسادنا الغضة التي لم يسكنها غبار المدينة ولا تقلبات الأزمنة المليئة بالأدكنة والأوبئة العابرة بين ميادينها وشوارعها وضوضائها وازدحامها بأناس لا يعرفون بعضهم بعضاً ولا يبالون بك من تكون أو ما أنت عليه ، الفرق كبير بين نقاء وصفاء القرية وبين ضوضاء المدينة وغربتها ودسائسها ، وبين رمضان القرية ودخان خبزها يصعد من مداخن اجبيتها فتشعر بطعم ورائحة القمح والشعير والذُرة التي تأتي من حقولنا ولا تعبر البحر لتصل الينا بلا طعم ولا رائحة ، وفي رمضان أمهاتنا اللائي يملكن بقرات في القرية يستنفرن من في البيت لكي يتوفر اللبن الرائب لكل من يطلبه من جيران القرية فالنساء أمهاتنا والبنات أخوات لنا يجمعنا الحب والأيثار .
▪︎كانت موائد رمضان في قريتنا مثل كل قرى اليمن وريفه العاطر عامرة بما يتوفر من مأكولات ألفناها كل ايام السنة ولكن في رمضان لها مذاق مختلف وعلى عكس المدينة لابذخ في القرية ولا فقراء ينامون جياعاً ولا يأوون الى فراشهم بأوجاعهم فالناس كلهم شركاء في السراء والضراء وحتى خلافاتهم بسيطة كبساطتهم ولا تأخذ بعداً عدائياً ، في رمضان قريتنا كانت لنا حكايات وذكريات لا تفارقنا ، وحين انتقلنا إلى المدينة تركناها خلفنا هناك حيث عشناها وترعرعت معنا ، غير أن صخب المدينة وصيرورتها وبزمنها المختلف واناسها المختلفون وحيث يتصارع المتنافسون التآمر المتآمرون على بعضهم، وحيث يغادر الوطن الخائفون من بطش يترصدهم وحروب تحرق وطنهم ، وفساد ومفسدون يأكلون من سنابل رمضان اليوم ما قد يبقيهم أحياء في عجاف سنوات رمضان الآتية لاريب ، ففي المدينة ثمة عوالم تأكل بعضها وثمة حرائق مشتعلة لا صلة لها بسكينة رمضان القرية حيث كانت تغترف منه طفولتنا الذكريات والاحلام بنقاء لايشبهه خطب من خطوب المدينة المفزعة ، وحين اليأس وفي البأس نعود إلى حيث كانت ذكرياتنا نقية واحلامنا وردية ورمضاننا عامر بالخير لا تشوبه نواميس السياسة ولا طغاة ولا صراعات الانداد ولا حروب تثخن جراح الوطن وتدميه ، ولا أزقة قريبة من مقابر الضحايا والجياع النائمون نوماً أبديا على غفلة من زمن جميل مضى وزمن حاضر مفجع وزمن مجهول قادم ، وتبقى قريتنا مأوانا وملاذنا إلى رمضان الحب والخير والصدق في العبادة والحرص على الفوز برضا الله وطمأنينة النفس .. وكل عام وانتم بالف خير.
*نقلا عن جريدة الراية