فاطمة عواد الجبوري*
تم الإعلان مؤخراً عن الانتهاء من إنشاء رصيف بحري من قبل الولايات المتحدة، يهدف إلى تسهيل إيصال المساعدات إلى قطاع غزة، وسط حرب إبادة جماعية ضد أهل غزة. ويتزامن هذا التطور بشكل مثير للقلق مع الهجوم الإسرائيلي على رفح والاستيلاء على معبرها الحيوي. إن هذا التزامن بين الأحداث لا يشير فقط إلى تحرك تكتيكي قصير المدى، بل يشير إلى استراتيجية أعمق وأكثر خطورة تستهدف سكان غزة، وهي استراتيجية ذات آثار عميقة ودائمة يجب تسليط الضوء عليها والدعوة إلى مواجهتها.
ويلقي هذا التطور ضوءا على الظروف الإنسانية الصعبة في غزة. حيث يعاني سكان هذه المنطقة المحاصرة من قيود قاسية بسبب الحصار الإسرائيلي الذي يسيطر بشدة على المعابر البرية الرئيسية ويحتل اليوم معبر رفح، بوابة غزة إلى العالم الخارجي. وقد أدى هذا الحصار إلى تعطيل تدفق الإمدادات الأساسية بشدة، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية الخطيرة بالفعل. ونتيجة لذلك، تشهد مدينة رفح، موطن ما يقرب من مليون ونصف المليون لاجئ، نزوحًا جماعيًا آخر لسكانها.
على الرغم من تصوير الولايات المتحدة على أنه مسعى إنساني، فإن الطبيعة الحقيقية لهذا الرصيف البحري وعواقبه الأوسع نطاقًا تخضع لتدقيق ونقاش مكثفين. ويبدو أن الولايات المتحدة، الحليف القديم لإسرائيل والمعروفة بمساعداتها الكبيرة ودعمها العسكري، وقعت الآن في تناقض. فبينما يهدف مشروع الرصيف ظاهريًا إلى تخفيف المعاناة، فإنه لا يرقى إلى مستوى معالجة القضايا الأساسية للحصار والصراع المستمر في غزة. وقد دفع الهجوم الإسرائيلي الأخير في رفح المنظمات الإنسانية إلى التشكيك في فعالية الرصيف البحري الذي تبلغ تكلفته 320 مليون دولار، بحجة أنه لا يستطيع التعويض عن حجم البضائع التي يتم نقلها عادة عبر الطرق البرية. ونحن نؤكد كذلك أن الرصيف يعمل على استكمال “ممر نتساريم” المثير للجدل، والذي يقسم قطاع غزة فعليًا إلى مناطق شمالية وجنوبية. وهناك مخاوف من أن تستخدم إسرائيل هذا الممر لإنشاء قاعدة عسكرية تحت ستار تأمين الرصيف البحري، وبالتالي تعزيز الوجود والاحتلال الإسرائيلي لغزة ما بعد الحرب.
علاوة على ذلك، فإن اختيار الطريق البحري عندما تتوفر ممرات برية مباشرة مثل معبر رفح يثير الشكوك حول الدوافع الكامنة وراء هذه المهمة الخيرية ظاهريا. ويشير التوقيت والآثار الاستراتيجية لهذا الميناء إلى التحول من الأهداف الإنسانية المباشرة نحو تحقيق المصالح الاستراتيجية طويلة المدى لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل. هذه الخطوة، بعيدًا عن كونها عملاً مباشرًا من أعمال المساعدة، قد تكون جزءًا من أجندة جيوسياسية أوسع لها تداعيات كبيرة على المنطقة.
وقد أثارت هذه المؤامرات الأمريكية-الإسرائيلية الأخيرة المتعلقة بقطاع غزة والمناورات السياسية المتعددة الأوجه المحيطة بها نقاشاً مكثفاً بين المراقبين الدوليين. أثار مارتن غريفيث، المسؤول الكبير للشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، احتمال أن يكون افتتاح الولايات المتحدة لممر بحري جديد مرتبطا بعملية عسكرية إسرائيلية في رفح، الواقعة في الجزء الجنوبي من قطاع غزة.
أما ليكس تاكنبرغ، المسؤول السابق في وكالة الأونروا، فأورد أنه “في ظل الظروف العادية، لو كان الغرض من هذا الميناء الجديد إنسانيا بحتا، لتُركت للأمم المتحدة مسؤولية إدارته بما في ذلك أمنه”، ولكن بذريعة تأمين هذه المنشأة الأمريكية، فإن إسرائيل ستسعى إلى بناء قاعدة عسكرية من شأنها أن تكمل نظام “ممر نتساريم”. وينظر البعض إلى هذه التطورات على أنها محاولة استراتيجية من قبل إسرائيل والولايات المتحدة لتقليل نفوذ الأونروا والأمم المتحدة وقدرتها التشغيلية في قطاع غزة.
وفي الأشهر الأخيرة، حدثت تحولات كبيرة في السياسات، أبرزها وقف الدعم المالي من قبل العديد من الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، للأونروا. لقد كانت هذه الوكالة بمثابة نظام دعم حيوي للاجئين الفلسطينيين، وقد أدى سحب التمويل إليها إلى دخولها في أزمة مالية حادة. ويرى النقاد أن هذا ليس مجرد تحول في السياسة، بل هو خطوة استراتيجية تهدف إلى تقويض حق الفلسطينيين في العودة – وهو جانب أساسي من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وينسجم هذا التكتيك مع أهداف أوسع لإضعاف المطالبات الفلسطينية والمواقف التفاوضية في محادثات السلام المستقبلية.
علاوة على ذلك، تفيد التقارير أن السيطرة على النقاط الاستراتيجية مثل معبر رفح قد يتم نقلها إلى شركة أمنية أمريكية خاصة، مما يزيد من تعقيد المشهد الجيوسياسي. ووفقا لتقارير صحيفة “هآرتس”، فإن هذه الشركة، التي يعمل بها أفراد سابقون في القوات الخاصة بالجيش الأمريكي، متخصصة في تأمين المواقع الاستراتيجية في مناطق الصراع. وسيشمل دور الشركة في رفح إدارة الحركة على المعبر والإشراف على توزيع المساعدات الدولية، وهي المهام التي تديرها تقليديا الأونروا أو الأمم المتحدة.
وتؤكد هذه التحولات حدوث تحول عميق في التعامل مع الجهود الإنسانية والاستراتيجية الجيوسياسية في المنطقة، مما يؤدي إلى تشابك المهمة الإنسانية مع الأهداف السياسية والأمنية الأوسع. وتشير هذه التطورات إلى مسعى استراتيجي أعمق لإعادة تشكيل المشهد السياسي في قطاع غزة وحوكمته في ظل إدارة أمريكية وإسرائيلية بحتة.
وسط نسيج معقد من المناورات والتصريحات الجيوسياسية، أثار الكشف الأخير جدلا كبيرا. فتح اقتراح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن إدارة مدنية في غزة، بعد الصراع، بمشاركة الإمارات العربية المتحدة ودول أخرى، فصلا جديدا من التوتر الدبلوماسي. وقد قوبلت رؤية نتنياهو، بانتقادات فورية وللمرة الأولى من قبل الإمارات العربية المتحدة. حيث ندد وزير الخارجية الإماراتي علناً باقتراح نتنياهو، مؤكداً أن الإمارات ترفض أي دور يمكن اعتباره تأييداً للسيطرة الإسرائيلية على غزة. ويمثل هذا الموقف خروجًا كبيرًا عن السلوك الدبلوماسي لدولة الإمارات العربية المتحدة على مدار سبعة أشهر من الحرب.
ويأتي هذا الجدل في وقت حيث كانت أساليب الدول العربية في التعامل مع الصراع في غزة متباينة وغير بناءة بشكل ملحوظ. فطوال فترة حرب الإبادة الإسرائيلية لم تدعم هذه الدول بشكل موحد مواقف حماس التفاوضية، وغالباً ما كانت ترسل رسائل سلبية. على سبيل المثال وقبل أسابيع من اليوم، أشارت التقارير الواردة من صحيفة وول ستريت جورنال إلى أن قطر تعيد تقييم موقفها تجاه حماس، تحت ضغوط دولية للنأي بنفسها عن قيادة الجماعة.
وبدا المشهد الجيوسياسي أكثر تعقيداً إلى حد ما خلال زيارة الشيخ طحنون بن زايد إلى قطر. وشارك رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي في الإمارات العربية المتحدة في محادثات قيل إنها أدت إلى اتفاقات تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح والسيادة. ويوما بعد يوم، يزداد الدعم الاقتصادي العربي غير المباشر. خذ على سبيل المثال خط الشحن الجديد الذي تعتزم شركة ميدكون لاينز إنشائه بين مصر وإسرائيل، والذي يربط الإسكندرية بأسدود وحيفا. هذا التطور، كما أفاد موقع “port2port” الإسرائيلي، لا يسهل النقل البحري فحسب، بل يدل أيضًا على تكامل اقتصادي أعمق، والذي يشمل انضمام مصر إلى مشروع “جسر بري” لنقل البضائع من دول الخليج إلى إسرائيل، متجاوزًا الحصار الذي يفرضه الحوثيون في البحر الأحمر.
وبدلاً من فتح الفضاء السياسي للشعوب العربية للتعبير عن دعمها للشعب الفلسطيني والدعوة لوقف الإبادة الجماعية بحق أهل غزة وتعزيز الموقف التفاوضي لهذا الشعب، بدأت السعودية بقمع المواطنين الذين عبروا عن دعمهم لغزة حسب صحيفة بلومبيرغ. وتأتي هذه الاعتقالات في الوقت الذي يقترب فيه تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، بحسب مسؤولين أميركيين.
كما يظهر من بين المعتقلين المدير التنفيذي لمشروع رؤية 2030. واعتبر هذا الشخص في مواقفه الحرب على غزة جريمة مخزية تهدف إلى إبادة الفلسطينيين. ومن بين المعتقلين الآخرين الإعلامية السعودية التي قالت إنه “لا ينبغي التسامح مع إسرائيل أبدا”. أو يمكن ذكر عدد من المواطنين السعوديين الذين دعوا إلى مقاطعة مطاعم الوجبات السريعة الأمريكية في السعودية.
وعلى الرغم من كل خطابات القادة السعوديين ضد إسرائيل وجعل التطبيع مرهونا بإنهاء الحرب وإقامة حل الدولتين، فإننا نرى أن السعودية ليست على استعداد حتى للتسامح مع آراء مواطنيها فيما يتعلق بطلب إنهاء الحرب.
ولذلك وبعد أن تكشفت المؤامرة الإسرائيلية الأمريكية حول إنشاء رصيف بحري واحتلال معبر رفح بات واضحاً للجميع بأن هناك حرب ممنهجة ضد الوجود الفلسطيني وضد حقوق الفلسطينيين الأساسية في الحياة وحق العودة إلى أراضيهم وهذا ما ينبغي أن يتنبه إليه الشعب العربي والشعوب المسلمة وغير المسلمة حول العالم لإننا لا نعول أبداً على أي حكومة عربية أو نظام دولي حيث يتواطئ جميعهم ضد شعب أعزل ويتعرض للإبادة والتهجير القسري بشكل يومي.
*كاتبة وباحثة عراقية
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …