محمد بوعبد الله*
ما لا يمكن إنكاره ابتداءً بأي حال، عند الحديث عن جبهة لبنان النشطة جدا، في معركة طوفان الأقصى، هو أن ما يقوم به حزب الله في المقام الأول، وبالثقل الأكبر، في تلك الجبهة، ومعه منها فصائل المقاومة الأخرى فلسطينيةً ولبنانيةً، من إشغال واستنزاف كبيرين لإسرائيل في شمال فلسطين المحتلة، يرتقي إلى مستوى الإنجاز الاستراتيجي الذي سيسرع سقوط كيانها، إن عاجلا أو آجلا، أيّا يكن ما يقوله خصوم الحزب، أو المعترضون على نهجه المقاوم.
وفي هذه المسألة، يتأرجح المناوئون بين أن يُحَمِّلوه أوزار الحرب على لبنان، إن كان مبادرا باندفاع إليها، وبين أن يتهموه بالتقصير في نصرة الفلسطينيين في غزة، مقللين من حجم مشاركته في توجيه الضربات الموجعة، ومبطنين الزعم بالخذلان لهم بأنه يحجم عن الاشتباك الحربي المباشر الموسع، وقد يدسون بين الأمرين فرضية اكتفائه بـ”مسرحية” لإزالة العتب، رغم أنهم قد يكونون هم أنفسهم مَنْ يُثلج صُدورَهُم أن يكون للحزب “قتلى” بالمئات!
وأين اجتياح الجليل؟!
ربما يتساءل بعضهم يريد بهذا التساؤل مَكْرًا، ضاربا عرض الحائط بمقتضيات الوقائع في الميدان، وكذلك ضرورات المواجهة وأحكامها، فضلا عن الحسابات العسكرية البحتة، وفقا لظروف القتال ومعادلاته، فما يصح في ظرف قد لا يصح في غيره. والتقدير يعود إلى العارفين من كثب بإدارة الصراع، إذ النصر تعريفًا أقربَ إلى تاريخ الصراعات والحروب، ونتائجها، هو في المحصلة فرضُ ما لا يرضى به العدو، وإجباره على تجرع مرارته، وعلى جعله أمرا واقعا لا فكاك منه، مع الإذعان له عاجزا عن تغييره.
وبالعودة إلى الجليل المحتل، هاهو هذا الجليل نفسه يبوح بإحدى بركات تعجيل حزب الله بفتح جبهة الجنوب، وعلى نحو مدروس، وبخطوات متأنية تتناسب طرديا مع موجبات الرد والتصعيد، حيث بات قادة الاحتلال يهددون ويتوعدون صباحا، ويرتعدون مساءً ويرتدعون، أو بالعكس ليلا ونهارا، فيحسبون لكل أمر حسابه مرارا وتكرارا، وإن فعلوه راجعوا الحساب مليًّا قبل التفكير في معاودته، أو تجاوزه، حتى أن السبل ضاقت بهم إلى أضيق مخارجها، وقد فقدوا مبكرا القدرة على ضبط إيقاع المواجهة، بخلاف ما يريدون.
واللافت بحق هو أن الجليل بات مصيره مرتبطا ارتباطا مباشرا بما ينجزه حزب الله فعليا، فقد أصبح منذ أشهر خارجا عن السيطرة في أمنه، وقد يصبح قريبا خارج عنها في حكمه وإدارته، إن تحقق تهديد رئيس المجلس الإقليمي في الشمال بالانفصال عن إسرائيل، مدفوعا إلى تصريحه الصادم للإسرائيليين، بإحباطه من عدم قدرة حكومة نتنياهو على حماية المستوطنين، بعد أن أمهل الأخيرُ نفسه ما بعد بداية العام الدراسي أشهرًا، عند جوابه عن مطلب إعادة النازحين منهم منذ 7 أشهر إلى مستوطناتهم، وعددهم يقدر بـ 80 ألف مستوطن.
وما يدركه الإسرائيليون جيدا، هو أن نتنياهو يعمل جاهدا على شراء المزيد من الوقت، من أجل مصلحته الشخصية في البقاء في السلطة، وربما يتعلق الإمهال بإفرازات الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، فقد يراهن على عودة حليفه القديم دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لينال أمنية أن يبقى هو متشبثا بالسلطة “بأظافره”، وما بعده الطوفان على المنطقة برمتها. ونهج شراء الوقت يتبعه رئيسُ وزرائهم سيءُ الصيت بينهم، بسبب مسؤوليته المباشرة عن فضيحتهم الأمنية، أي الاختراق الذي أنجزته سواعد المقاومين الفلسطينيين في السابع من أكتوبر المجيد، وأيضا بسبب حربه الفاشلة عسكريا واستراتيجيا، وما ترتب عنها من عجزه المزمن عن إعادة الأسرى بالقوة، كما وعد وتوعد، وهو ما يدفعه بقوة إلى تشبثه بالحكم خشية الحساب، ولاسيما أنه متابَع أيضا بالاتهام في قضايا فساد، لا تزال حية.
وسواء أصبحت “دولة الجليل” أمرا واقعا، أو بقيت احتمالا قائما، فلا ريب في أن رعب الشمال الذي أحدثه الحزب قد عمق أزمات كيان الاحتلال، إن لم ينزلق أصلا إلى حرب أهلية، كانت قد أصبحت فعليا منذ أعوام إحدى مفردات السجال السياسي الحاد، وقد أصبحت أقرب إلى الواقع الممكن جدا، بعد أن اهتز بشدة أمنيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، بفعل طوفان الأقصى، ودخل حالة جنونية غير مسبوقة منذ عقود، ولاسيما مع اشتداد عقدة إكمال العقد الثامن، إذ يقترب أكثر من نهايته بعد أربع سنوات، فقد بات هاجس “خراب الهيكل الثالث” متلازمة تؤرق شخصيات لها وزنها في إسرائيل، والشاهد هنا تحذير أطلقه اللواء احتياط في جيش الاحتلال إسحاق بريك، قبل أسابيع، مبديا خشيته من أن الحرب التي يقودها نتنياهو، سيكون مؤداها الخراب، أي نهاية إسرائيل، إن استمرت على ما هي عليه.
فهل سيكون انفصال الجليل مقدمة لانفراط عِقْدِ كيان الاحتلال، قبل اكتمال عَقْدِه الثامن؟
*كاتب وإعلامي جزائري
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …