سماح خليفة*
كأنّ الأرض لم تكفِ!… “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب”، مقولة بدأت تتبلور فكرتها في عقل القِس الإنكليزي (ألكسندر كيث) بعد زيارته لفلسطين العثمانية عام 1839م، وبعد أربع سنوات نضجت الفكرة؛ ليعلن عام 1843م أن اليهود تائهون في العالم، لا مكان لهم، فهم شعب بلا دولة، وأنه وجد لهم دولة بلا شعب، ثم استنسخت روح الفكرة عام 1853م على لسان رئيس جمعية لندن لتعزيز المسيحية بين اليهود، في مقولة أوسع بأن سوريا الكبرى دولة بلا أمة بحاجة إلى أمة بلا دولة، وظلت الفكرة تتناسخ وتتطور على لسان اللورد (شافتسبري) “أرض الخصوبة والتاريخ بلا شعب”، ثم على لسان المبشر الإنكليزي (ويليام يوجين بلاكستون) بعد رحلته للأراضي الفلسطينية عام 1881م، ثم على لسان الصهيوني (إسرائيل زانغويل) قبل تحول آرائه وانفصاله عن الحركة الصهيونية عام 1905م، إثر إدراكه لسذاجة الفكرة بعد اكتشافه وجود شعب بكثافة سكانية عالية في فلسطين، والخطر العربي الذي سيضطر اليهود للتعامل معه، ليتحول بفكرته -التي لم تنجح- إلى أوغندا أو الأرجنتين. ثم تبلورت الفكرة بعد ذلك لتتحول المقولة عام 1914م على لسان (حاييم وايزمان) رئيس المؤتمر الصهيوني العالمي، وأول رئيس لدولة إسرائيل، إلى “تفاهم أصحاب البلاد”، “زواج شعبَيْن”، “توحيد شعبَيْن”.
وعلى تماس مع دائرته الزمنية، نشر (أشير تسفي غينتسبرغ = إحاد هعام، الاسم الأدبي)، وهو من أهم المفكرين اليهود في أوروبا، نشر مقالًا عن “الروح والجسد”، ناقش فيه “المسألة اليهودية”، حيث أشار إلى أن اليهودية عبارة عن روح بلا جسد، وكل روح في مثل تلك الحالة هي “شبح” لا يمكن التخلص منه ولا من شروره؛ لأنه لا يموت ولا يحول ولا يزول، ويبقى موجودًا كشبح، وحتى لو قطع فإنه يتعدد، وكلما قطَّع أكثر، تضاعف عدده، وأصبح أشباحًا كثيرة، ولذلك فإن الحل الأمثل، هو حشر تلك الروح (الشبح) في جسد، فتتحول بذلك من شبح هائم، لا يمكن عقابه، الى كائن حي متجسّد، وفي حال تحقّق ذلك، يصبح بإمكان أوروبا أن تكافئ هذا الكائن الحي إذا تصرف بحكمة، وأن تعاقبه إذا أساء.
بعد بضع سنين من نشر ذلك المقال، كان للحركة الصهيونية، بدفع ودعم وتشجيع من سياسيين أوروبيين، ما أرادت، وكانت الخطوة الأولى هي بدء اعتماد تحويل أتباع الديانة اليهودية، من مجرد أتباع دين سماوي، إلى “شعب” تم اختراعه، وهذا ما وضحه (شلومو ساند، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، الذي هاجر عنها، وانفصل عن الديانة اليهودية، ليصبح، فيما بعد، أستاذًا للتاريخ في جامعة السوربون في باريس، وذلك في كتابه “اختراع الشعب اليهودي”، ثم كان لهذا “الشعب” ما أرادته دول أوروبا والغرب الاستعماري، حيث تم بعد خمسة عقود إنشاء الحركة الصهيونية، تجسيد “الشبح” اليهودي، بإقامة “دولة إسرائيل”.
لم يقف ذلك عند حد استبدال “مأساة الشعب الفلسطيني” بـ”مأساة يهود أوروبا”، بفعل نكبة 1948م، التي شرذمت الروح الفلسطينية، وأصابتها بحمى الانفصال بين الضفة، والداخل، وغزة، والشتات، واللجوء، إنما تحولت إلى أشباح تطارد الصهاينة الأحياء، وخاصة بعد إبادة الأخيرة للمدنيين في حرب غزة، وقتل الفلسطينيين وسرقة أجسادهم، أو تركها تتحلل، أو عودتها أجسادًا خاوية، وأشباه أجساد في حاويات داخل شاحنات، لا يمكن التعرف على هوية محتوياتها بسبب انتهاك حرمة الروح والأعضاء والجسد.
إنّ الروح الفلسطينية التي تجسّدت بما يلائم المرحلة منذ عام 1948م وحتى اليوم، تتجلّى أوضح ما يكون في شبح (السّنوار) الذي يؤرق جيشًا من أقوى 18 جيشًا في العالم، بل إنّ روح السنوار صارت أشباحًا تطلّ من كل زاوية في غزة، استطاعت أن تُدخل العدو في هاجس القضاء على الرجل الذي كان في قبضتها، واستطاع خداعها؛ ليفلت حرًّا، يؤرّق نومها، ويقضّ مضجعها، ورسم سيناريوهات وهمية حول تلك الشخصية، فصارت تتخبط في دائرة الصراع الذي جرّها إلى رفض الهدنة الأخيرة برغم موافقة حماس عليها، مما جعلها تجتاح رفح، وتقصف وتقتل وتنكل، وتستعرض انتصارها الوهمي بصور مخادعة على محور فلادلفيا، توحي بفرض سيطرتها وقوتها، ضاربة بعرض الحائط أي اعتبار لوجود أسرى إسرائيليين، أو أي أصوات دولية تندد بذلك، بل إنها داست على الولايات المتحدة، والمحكمة الجنائية الدولية.
هاجس القضاء على الروح الفلسطينية وتجريدها من جسدها، وهيكليتها، وبصمتها، وتأثيرها، لم تبدأ مع روح نتنياهو الإجرامية المتعطشة لدماء السنوار، وجسده، وجسد حماس ككل، وجسد الفلسطيني والعربي بصورة أشمل، إنما بدأت مع (مناحيم بيغن وآريئيل شارون)، وملاحقتها الروح الفلسطينية التي تجسدت في منظمة التحرير الفلسطينية، باجتياح جنوب لبنان ومحاصرة بيروت الغربية، وتقطيع أوصال “الروح الفلسطينية” في طور تجسّدها، والتي نتج عنها خلق “أشباح فلسطينية” في كل مكان، في فلسطين والجزائر والأردن وتونس واليمن…الخ، تطارد إسرائيل.
سار على نهج فكرة “تجسيد الروح”؛ لملاحقتها، فيما بعد، شمعون بيريس، الذي بدوره أقنع إسحق رابين، فتمثل ذلك الجسد فيما بعد بـ”اتفاقية أوسلو” 1993م، واتفاق “غزة أريحا” 1994م…الخ، فخلق هذا التجسيد للروح الفلسطينية التي صارت شبحًا يطارد إسرائيل ويهدد وجودها، ويحول المنطقة من السعي للحفاظ واسترداد حقوق الشعب الفلسطيني الطبيعية إلى جسد يكافأ، ويعاقب وفقًا لكفاءته في حماية الروح الإسرائيلية بالمحافظة على جسد وكيان يحتضن تلك الروح التائهة في كافة أنحاء العالم، والسعي إلى استقرارها، لكن قناعة اليهودي في اللاوعي الجمعي وخاصة اليمين المتطرف بفكرة “التيه”، و”الوطن المفقود”، (النسق المحفور في الذاكرة)، والخوف من الخطر الذي يهدد وجود الإسرائيلي، أدى إلى اغتيال رابين فيما بعد، ليحتل شارون من جديد ما تم انسحاب الاستعمار الإسرائيلي منه من أرض فلسطين، ثم توجيه البوصلة إلى اغتيال ياسر عرفات، ثم الانسحاب من قطاع غزة دون تنسيق مع منظمة التحرير الفلسطينية، لتحدث فجوة فكرية عميقة بين غزة والضفة الغربية، بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية وحركة فتح، ومن ثم يشرع الباب أمام بنيامين نتنياهو؛ لتوسيع تلك الفجوة وعدم السماح بتجسيرها، إنما خلق قطيعة مأساوية بينهم، ختمت بشبح السابع من أكتوبر، الذي دقّ ناقوس الخطر في إسرائيل، وأفقدها صوابها، وشدّها إلى مستنقع دموي أوسع وأخطر من سابقه، جعلها تخسر ثقة الإسرائيليين بمستقبل دولتهم، وأنها قادرة على حماية نفسها، ودورها في حماية مصالح أمريكا وأوروبا في الشرق الاوسط، بل تبخرت صورتها كضحية لجرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية، وأصبحت تجرّ الى قفص الاتهام، في محكمة العدل الدولية، فضلًا عن خسارتها تعاطف الرأي العام العالمي معها، وفي الغرب خاصة، الذي تمثّل بالمظاهرات الحاشدة المتواصلة في عواصم العالم ومدنه، مظاهرات الجامعات الأكثر عراقة وأهمية، الداعمة لفلسطين والمناهضة لجرائم إسرائيل في قطاع غزة، والضفة الغربية، والقدس، وفي كل أماكن تواجد أبناء الشعب الفلسطيني.
لن تتخلص إسرائيل من شبح الروح الفلسطينية التي يطاردها في كل مكان، ولن يعود الهدوء والاستقرار إلى المنطقة إلا إذا اعترفت واستسلمت لحقيقة الوجود الفلسطيني، جسدًا وروحًا، كلٌّ واحد، وذلك بقيام دولة فلسطينية مستقلة، ذات سيادة كاملة على أراضيها، وعاصمتها القدس “الشرقية”، وإزالة المستوطنات من أراضي الدولة الفلسطينية كخطوة أولى، ثم إلزام إسرائيل بدفع وتسديد كل ما عليها من استحقاقات للشعب الفلسطيني، وصولًا إلى تسويات منطقية مقبولة، يتم من خلالها حاليًا تعايش الفلسطينيين، واليهود الإسرائيليين، حيث لا يمكن لها أن تلغي حقيقة وجود ما يزيد عن سبعة ملايين فلسطيني على أرض فلسطين، وما يقارب سبعة ملايين لاجئ فلسطيني في دول الجوار والشتات، لهم حقوقهم الطبيعية والشرعية، التي سيتم استردادها والسعي لتحقيقها.
*كاتبة فلسطينية