عبدالرحمن مراد*
أضحت الوحدة الاندماجية التي حدثت بين شطري الوطن عام 90م قضية وطنية بالغة التعقيد، فالحديث عن أهميتها واستراتيجيتها وأثرها لم يعد حديثاً مجدياً بعد أن تركت الصراعات وحرب صيف 94م ظلالاً قاتمة على واقعها وتصاعدت دعوات فك الارتباط واتسعت قاعدتها الجماهيرية ومبرراتها الموضوعية، ذلك أن الحروب لا تترك إلا جرحاً غائراً في العمق النفسي، ولن تخفي بين جذوات انتصاراتها إلا رماداً قد يشتعل في لحظة تاريخية فارقة كالذي حدث تحت سماء الربيع العربي، حيث أن الشعور بالظلم والانكسار والهزيمة شكل دافعاً مهماً في عملية التحول في المواقف التي شهدها اليمن، فالذين كانوا يجرمون القول بالانفصال أصبحوا الآن أكثر تقبلاً له، والذين كانوا يدعمون الحراك ويتعاطفون معه أصبحوا الآن أكثر ضيقاً بطرحه إلى درجة الصدام الدامي والمواجهة المسلحة في أكثر من مكان، ولم يكن مثل ذلك إلا نتائج منطقية لمقدمات كان الاستبداد والاستفراد أبرز مظاهرها.
ويمكن أن يقال أن فقدان القيمة والمعنى والشعور بفقدان القوة عوامل نكوص وانكسار تعمل على إيقاظ الهويات التاريخية المتناثرة، وهي عوامل تشظي تفت في عضد الوحدة الوطنية وتساعد على إنتاج كيانات متصارعة، وهو الأمر الذي يمكن قراءته في تجليات المرحلة ومظاهرها ومناخاتها الثقافية والسياسية، فالقضية الجنوبية أصبحت حقيقة لا يمكن القفز على مفردات وجودها وهي جزء من قضية وطنية كبرى ذات أبعاد وأشكال متعددة تركتها مناخات الصراعات منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، والوقوف أمامها يتطلب نقداً ذاتياً ورؤية تصالحية مع التاريخ.
ما لا يدركه فرقاء العمل السياسي الوطني أن الربيع العربي الذي يتباهى به الكثير منهم عمل على التفكيك الذي عزز من الهويات التاريخية والثقافية وأنتج كيانات في ظاهرها الجدة والعصرنة، وفي كوامن جوهرها الامتدادات التاريخية التي تحاول إعادة التكيف مع الواقع الجديد، ولن تكون تلك الكيانات الجديدة إلا كيانات متصارعة تبحث عن الوجود والبقاء والحفاظ على القيمة والمعنى.. وفي ظني أن غياب المشروع الحضاري الجامع سيكون سبباً في ملء الفراغات التي تشتهي الامتلاء، فغياب المشروع لا يدل على ربيع عربي بل سيكون دالاً على عدميته، والعدمية لا تنتج إلا عدماً مثلها وتشظياً، يتناثر على إثرها الوطن إلى دويلات متعددة وهذا ما قال به الواقع بعد أكثر من عقد ونيف من الزمان على حدوثه .
فالوحدة بالمعنى الجزئي في الجنوب لا يتجاوز عمرها 23 عاماً (1967م – 1990م)، وبالمعنى الكامل (90-2024م) لا يتجاوز عقدين من الزمن أما عقدها الثالث فقد قضته في صراعات وحروب واضطرابات أمنية دون استقرار، ومثل هذا التراكم البسيط لن يحقق استقراراً لاستحكام العامل التاريخي والثقافي فيه، لذلك فالتقسيم الإداري الذي يراعي التجانس التاريخي والثقافي هو الخيار الأمثل لأمن واستقرار ونماء هذا اليمن، ولن يكون التقسيم الجديد حلاً في حد ذاته إلا إذا تكامل مع قيم ومبادئ الدولة المدنية الحديثة التي تضمن تكافؤ الفرص وتحقق عدالة التوزيع ويعمل على المساواة ويعزز ويقدس سيادة القانون ويعمل على تحديث البنى الاجتماعية والثقافية، فالبنى القبلية يجب أن تحل محلها البنى المؤسسية، ووعي الغنيمة يجب أن ينزاح إلى وعي الإنتاج، والتراث الفكري يجب أن يُقرأ بوعي الحاضر، ومثل ذلك يتطلب عملاً مضاعفاً وتكاملياً، ونحسب أن المناخات العامة مهيأة لقرع نواقيس البداية فيه، فالتعدد في وسائل الاتصال واتساع الأفق المعرفي يجعل المهمة أيسر مما كانت عليه في الماضي، فالفراغ الذي تركه هذا الربيع يجب أن يُملأ بمفاهيم مدنية وحداثية، وعلى المثقف الحقيقي أن يستعيد دوره الجماهيري ويستعيد سلطته التي صادرها عليه السياسي لتكون الحياة أكثر نمواً وتطلعاً ورغادة عيش.
لقد مارس الواقع قمعاً وإرهاباً فكرياً ونفسياً واجتماعياً توارى على إثر ضرباته المثقف الحقيقي ليبحث عن قيمته في ذاته ولم يجدها، ورأينا كيف أنّ ذلك الواقع لم ينتج مثقفاً نوعياً يكون امتداداً للجاوي والبردوني والمقالح، وغياب المثقف الحقيقي دال على غياب البعد الحضاري، إذ أن ثمة تلازماً عضوياً بين البعد الحضاري والنهضة الفكرية والثقافية والإبداعية، وسياقات التاريخ تحدثت عن ذلك التلازم، فالبعد الحضاري لم يكن إلا نتيجة لمقدمات موضوعية ومنطقية، واستقرار الأوطان يظل رهن وعي نخبها، ويقظة الهويات التاريخية لن تكون إلا رهن الممارسات الخاطئة التي تقوم بها الأنظمة، لذلك فإن دعوات فك الارتباط ليست إلا نتيجة لمقدمات خاطئة، واتساع دائرة تلك الدعوات من الجنوب إلى تهامة، سوف يضاعف من الشعور بالتفرد والاستقلالية ويضاعف من الإحساس بالضيق بالآخر، وهو الأمر الذي يصطلح عليه بـ«تجزئة الهوية الوطنية» ومظاهر تجزئة الهوية دالة على وجود خلل في المنظومة الاجتماعية والثقافية والسياسية، لذلك فتفعيل دور المثقف الفرد والنوعي وتفاعله الإيجابي ومشاركته قد تخفف من وطأة الأحداث وتحد من امتدادها وتساعد في لملمة المتناثر لوعيه ولأهميته العضوية ولإدراكه لنتائج المقدمات والقرارات.
لقد أضحى اليمن على ريشة برق، إما أن يطير إلى المستقبل الآمن والمستقر بسرعة البرق، أو ينفجر ويتناثر بالسرعة ذاتها.. ، فالحوار في اعتقادنا صيغة إجماع توافقية نضمن من خلالها وجودنا وتفاعلنا المثمر والجاد مع المستقبل الآمن والمستقر الذي يتجاوز أخطاء المراحل ليصنع مرحلته، وليس مرجعية تضمن حل إشكالات الجماعات والأفراد التاريخية، ولعل قانون العدالة الانتقالية لابد أن يتكفل بحل كل الإشكالات التاريخية وفق رؤية تصالحية لا عقابية ، فاللحظة التاريخية عليها أن تجبّ ما قبلها، وقد أثبت هذا النهج نجاحه وتأثيره المتنامي على الأفراد والجماعات في تحقيق الانسجام والوئام والتفاعل مع المستقبل- كما في موضوع الطلقاء في فتح مكة- فإلغاء الآخر قضية غير منطقية لكون الإلغاء يصنع قوة مضادة ومناهضة لن تترك إلا أثراً مدمراً يهدد الحياة والسلم والاجتماعي، فكل دولة في التاريخ خلقتها الدولة التي سبقتها، وعلينا أن نتجاوز هذه الإشكالية التاريخية بالتأكيد والنص على الدولة المدنية الحديثة، التي تضمن للجماعات والأفراد حق الوجود وحق التعبير وتضمن عدالة التوزيع وتكافؤ الفرص، فالشرارة قد تصبح ناراً، وكل صغير قد يكبر، ودعوات فك الارتباط كانت صغيرة، فتجاهلناها وها هي تهدد الوطن اليمني بالانفصال، ولن يكون غيرها إلا مثلها إذا لم نتداركه من الآن.
*نقلا عن الثورة
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …