د. حامد أبو العز*
في أعقاب اغتيال الشهيد إسماعيل هنية في طهران، وجدت إيران نفسها عند منعطف تاريخي. فقد أشعلت العملية الإسرائيلية، عاصفة من الغضب والدعوات إلى الانتقام داخل الجمهورية الإسلامية. وتعهد الزعماء الإيرانيون، من أنصار السياسة إلى القادة العسكريين، بالإجماع بالانتقام الشديد من إسرائيل، وتعهدوا باتخاذ إجراءات حاسمة تتوافق مع رغبة الأمة المتحمسة في تحقيق العدالة.
وفي حين تستعد إيران لمواجهة محتملة، بدأ سؤال جديد يتجذر في الوعي الجماعي: ماذا لو لجأت إسرائيل، التي تشعر بالمحاصرة من قبل حزب الله واليمن والعراق وإيران، إلى استخدام الأسلحة النووية ضد إيران؟ هذا السيناريو، الذي كان ذات يوم نسج خيال وتوقعات، يلوح الآن كاحتمال معقول.
من المعتقد به على نطاق واسع أن إسرائيل تمتلك ترسانة نووية واسعة النطاق، تقدر بأكثر من 200 قنبلة نووية. وتعود أصول القدرة النووية الإسرائيلية إلى منتصف القرن العشرين، مع إنشاء مفاعل ديمونا النووي في صحراء النقب. وقد تم تطوير هذه الترسانة في ظل سياسة الغموض المتعمد، والتي يشار إليها غالبًا باسم “التعتيم النووي”، حيث لا تؤكد إسرائيل أو تنفي امتلاكها للأسلحة النووية.
إن تاريخ الموقف النووي الإسرائيلي يتميز بلحظات حرجة حيث نظرت إسرائيل في استخدام الأسلحة النووية ضد شعوب المنطقة في أكثر من مناسبة. ومن بين هذه الحالات ما حدث أثناء حرب أكتوبر 1973. ففي مواجهة النكسات الأولية ضد القوات المصرية والسورية، ورد أن إسرائيل وضعت قواتها النووية في حالة تأهب. ولم يكن المقصود من هذه الخطوة أن تكون رادعة فحسب بل عملت أيضاً كوسيلة ضغط لتأمين المساعدة العسكرية العاجلة من الولايات المتحدة وحلفاء غربيين آخرين.
كما هددت إسرائيل باستخدام سلاحها النووي ضد شعب غزة في أكثر من مناسبة ومن أعلى الهيئات السياسية والعسكرية لها.
إن أروقة السلطة داخل إيران تعج الان بالنقاشات المحمومة والحسابات الاستراتيجية، حيث ينخرط الاستراتيجيون العسكريون والمستشارون السياسيون في مناقشات دقيقة على مدار الساعة. والموضوع الرئيسي هو كيف ينبغي لإيران أن تستجيب للتهديد النووي المتصاعد الذي تشكله إسرائيل. ويعكس هذا التداول المكثف خطورة الموقف وأهميته.
ويبدو بان التفكير الاستراتيجي الذي تتبعه إيران مبني بشكل كامل على ما أصدره المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي من فتوى تحرم إنتاج وتخزين واستخدام الأسلحة النووية، والتي تشكل حجر الزاوية في الموقف الرسمي لإيران. إلا أن ذلك لا يعني أن إيران غير مستعدة لمواجهة الهجمات النووية الإسرائيلية بل على العكس هي لديها تصور كامل للرد مبني أيضا على خطاب مهم ألقاه خامنئي في عام 2012 في مرقد الإمام الرضا، حيث أكد أن إيران في حين لا تسعى إلى امتلاك أسلحة نووية، فإنها ستدافع عن نفسها بنفس القوة ضد أي عدوان من الولايات المتحدة أو الكيان الصهيوني. يشير هذا المبدأ إلى استراتيجية الانتقام المكافئ، مع الاستفادة من الأصول الاستراتيجية التقليدية أو غير النووية لمواجهة التهديدات.
يعد برنامج الصواريخ الإيراني مكونًا أساسيًا لاستراتيجيتها الدفاعية. تمتلك البلاد ترسانة متنوعة، بما في ذلك الصواريخ الأسرع من الصوت وتلك القادرة على حمل حمولات كبيرة. خلال عملية الوعد الصادق، أظهرت إيران قدرتها على ضرب الأهداف بدقة، لكنها حجبت أقوى قدراتها. وفي سيناريو انتقامي، قد تنشر إيران هذه الصواريخ المتقدمة لإلحاق أضرار جسيمة بإسرائيل، بما يضاهي إمكانات التدمير التي قد تنجم عن ضربة نووية.
تمارس إيران أيضًا نفوذًا كبيرًا من خلال شبكتها من الحلفاء في محور المقاومة. وحالة وقوع هجوم إسرائيلي، يمكن لإيران تنشيط هذه المجموعات لشن هجمات منسقة على المصالح الإسرائيلية وحلفائها، بما في ذلك الولايات المتحدة. وتُظهِر العمليات السابقة، مثل الهجوم على قاعدة عين الأسد الجوية في العراق، قدرة إيران على ضرب القوات الأمريكية بشكل مباشر، مما يؤكد على ضعف القواعد الأمريكية الداعمة لإسرائيل في المنطقة.
ولا تعتمد استجابة إيران لأي عدوان نووي على قدراتها الخاصة فحسب بل أيضا على تحالفاتها الاستراتيجية مع قوى عالمية مثل الصين وروسيا، والتي يمكن أن توفر الدعم في موازنة الميزان ضد إسرائيل والولايات المتحدة. قد يأتي هذا الدعم في شكل تكنولوجيا صاروخية متقدمة، أو تبادل المعلومات الاستخباراتية، أو الدعم الدبلوماسي أو حتى التدخل المباشر لصالح إيران.
ومع ذلك هناك تيار شعبي ونخبوي إيراني يدافع بحماس عن خیار امتلاك القنبلة النووية، زاعمين أن الترسانة النووية تعمل كرادع قوي ضد العدوان.
ویعقتد المدافعون عن التسلح النووي الإيراني أن التهديد بالانتقام النووي يضمن الاستقرار الاستراتيجي. يعتقد الإيرانيون أن تركيز القوة العسكرية يردع الخصوم عن بدء الصراعات، وبالتالي الحفاظ على توازن القوى. ويرى هذا المنظور أن القدرات النووية ليست مجرد أدوات هجومية بل إنها ضرورية للأمن القومي والاستقرار الجيوسياسي.
وغالبًا ما تنتقد النخب الإيرانية معاهدة منع الانتشار النووي ومعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وتعتبرها أدوات مصممة للحفاظ على هيمنة القوى النووية القائمة خصوصاً أن هذه المعاهدات يتم فرضها بشكل انتقائي وتفشل في تحقيق نزع السلاح الحقيقي. والتصور هو أن كيانات إرهابية مثل إسرائيل تمكنت من تطوير ترسانات نووية بدعم ضمني أو على الأقل بموافقة القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة.
في هذه اللحظة التاريخية، تقف إيران اليوم عند مفترق طرق حاسم. حيث يتعين علىها أن توازن بين التزامها بالمبادئ غير النووية وحتمية الدفاع عن النفس بقوة وعليها الانتقام للشهيد هنية بضربة حاسمة وقوية وشديدة. ومن خلال احتضان رؤية خامنئي للردع الفعال الاستراتيجية وتوسيع تحالفاتها الاستراتيجية والاستفادة من قدراتها التقليدية المتقدمة، أصبحت إيران على استعداد لتأكيد سيادتها وحماية شعبها ضد أي عدوان نووي إسرائيلي. والاختيارات التي تتخذها الآن لن تحدد الموقف الاستراتيجي لإيران فحسب، بل تعتبر مقدمة للقضاء على إسرائيل وطرد الولايات المتحدة من المنطقة إلى الأبد. إن الخطوات التالية التي قد تتخذها إيران ستمهد الطريق لإعادة ضبط توازن القوى، مما يشكل فصلًا جديدًا في تاريخ المنطقة المضطرب. وسوف تتردد أصداء هذه المرحلة المحورية خارج حدودها، وتشكل ديناميكيات جيوسياسية عالمية لسنوات قادمة.
*كاتب فلسطيني وباحث السياسة العامة والفلسفة السياسية
Check Also
ترامب والعالم!
بسام ابو شريف* قبل ان يدخل ترامب البيت الابيض ما هي خطة العمل باركانها الاستراتيجية …