د. حامد أبو العز*
في الشبكة المعقدة للسياسة الدولية والاستراتيجية العسكرية، تشكل المبادرة الأميركية لإعادة التفاوض على وقف إطلاق النار في قطاع غزة نموذجاً لمؤامرة خفية وخبيثة ضد حماس وشعب غزة على حدٍ سواء. وتحت سطح الخطاب الدبلوماسي ومفاوضات السلام تكمن مناورة محسوبة من جانب الولايات المتحدة، بالتعاون مع إسرائيل، تهدف إلى خنق المقاومة وضمان استمرار إخضاع الشعب الفلسطيني وتصفية وجوده وهويته.
وفي قلب هذه الاستراتيجية تكمن الجهود الماكرة التي تبذلها الولايات المتحدة لمنع أي انتقام إيراني على اغتيال إسماعيل هنية في طهران، وهو العمل الذي نفذته إسرائيل ظناً منها أنها ستفلت من العقاب. ولكن الولايات المتحدة تسعى إلى وضع نفسها في موقع المحكم على السلام، محذرة من أن أي ضربة إيرانية على إسرائيل سوف تتحمل اللوم عن إفشال المفاوضات الجارية. إن هذه الرواية التي تروج لها واشنطن تسعى إلى تحويل التركيز من الأعمال العدوانية الإسرائيلية إلى العواقب المحتملة للرد الإيراني، وبالتالي إعفاء إسرائيل من المسؤولية.
ولكن دعونا نكون واضحين: هذه المفاوضات لا علاقة لها بالعدالة أو حل الصراع الأساسي. إنها لا تتعلق بمعالجة الرغبة الإيرانية المشروعة في الانتقام لهنية، ولا تتعلق بمساعي حزب الله لتحقيق العدالة والانتقام في أعقاب مقتل فؤاد شكر. إن محور المقاومة، الذي يضم إيران وحزب الله وقوات حليفة أخرى، حازم في مهمته للرد على العدوان الإسرائيلي. وسوف يكون ردهم، عندما يأتي، منسقًا ومدمرًا ومدفوعًا بالتزام بمقاومة الاحتلال والقمع ونصرة أهل غزة وهذا أمر لا شك فيه.
ولكن من الضروري هنا تسليط الضوء على النفاق الصارخ للولايات المتحدة في هذا الموقف. إن نفس الإدارة الأمريكية التي تروج لنفسها الآن كوسيط للسلام غضت الطرف مرارًا وتكرارًا عن عرقلة إسرائيل للمفاوضات السابقة. عشرات المرّات قوض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الجهود الرامية إلى التوصل إلى اتفاق دائم، فقط ليقابل بالصمت أو الموافقة الضمنية من واشنطن. إن العالم يخدع نفسه ليصدق صدق المبادرة الأميركية للسلام، في حين أن هذه المبادرة في الواقع ليست أكثر من ستار دخاني يخفي العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة وتغطية لجرائم الإبادة التي تمارس بحق هذا الشعب الأعزل.
إن مفاوضات وقف إطلاق النار المزعومة ليست أكثر من حيلة استراتيجية للسماح لإسرائيل بإعادة تجميع صفوفها والاستعداد لمزيد من العمليات العسكرية ضد غزة. إن رفض الولايات المتحدة ضمان وقف إطلاق نار دائم يشكل إشارة واضحة إلى أنها متواطئة في خطط إسرائيل لضرب غزة مرة أخرى. كما أنّ وقف الأعمال العدائية المؤقت ليس خطوة نحو السلام؛ بل هو توقف مؤقت للعنف، تم تنسيقه لضمان قدرة إسرائيل على تحقيق أهدافها العسكرية دون تدخل دولي.
وعلاوة على ذلك، تكشف الخطط السرية لـ “اليوم التالي للحرب” عن النوايا الحقيقية وراء الاستراتيجية الأميركية والإسرائيلية. إن هدفهم ليس السلام بل السيطرة وتحويل غزة إلى سجن بحكم الأمر الواقع، يحكمه تحالف من الدول العربية التي تعمل بالوكالة عن المصالح الأميركية والإسرائيلية. إن هذه الخطة، التي قوبلت بمقاومة من جانب دول عربية رئيسية مثل قطر والمملكة العربية السعودية والأردن، تؤكد على الطموحات الإمبريالية التي تحرك السياسات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة.
وتعمل كل من إسرائيل والولايات المتحدة على دعم شخصيات عربية للتسلل والتأثير على الدول العربية الرافضة بالمشاركة في اليوم التالي للحرب وهذا يكشف جوانب أخرى من المؤامرة التي يتعرض لها شعب غزة. وتحت ستار العمل لصالح شركة تصنيع أسلحة، هذه الشخصيات هي مجرد بيادق في مخطط أكبر لتقويض الحكم الفلسطيني وزرع الفتنة داخل حركات المقاومة. وتتلخص مهمام هؤلاء، بدعم من المصالح الأميركية والإسرائيلية، في إضعاف البنية الداخلية للمقاومة الفلسطينية، مما يسهل على القوى الخارجية فرض إرادتها عليها.
ومرة أخرى علينا التأكيد على أن أولئك الذين يعتقدون أن هذه الخطط سوف تقتصر على غزة مخطئون بشكل خطير. إن الهدف النهائي لهذه الاستراتيجية هو التصفية الكاملة للهوية الفلسطينية والوجود الفلسطيني. والسيناريو الذي يتكشف حالياً في غزة هو مقدمة لما ينتظر القدس والضفة الغربية. إن محو السيادة والثقافة والتاريخ الفلسطيني هو الهدف النهائي، حيث تسعى إسرائيل وحلفاؤها إلى إعادة تشكيل المنطقة وفقًا لمصالحهم الاستراتيجية.
وفي الختام، فإن المبادرة الأميركية لإعادة التفاوض على وقف إطلاق النار في غزة ليست خطوة نحو السلام بل هي مؤامرة مدروسة ضد الشعب الفلسطيني. وهي امتداد للجهود المستمرة التي تبذلها الولايات المتحدة وإسرائيل لقمع المقاومة وضمان استمرار هيمنتها على المنطقة. ويتعين على العالم أن يرى من خلال هذه الواجهة وأن يدرك الطبيعة الحقيقية لهذه المفاوضات: فهي مقدمة لمزيد من العنف والتشريد ومحو الهوية الفلسطينية في نهاية المطاف. ولكن المقاومة تظل صامدة، وسوف يكون ردها سريعاً ولا يرحم. إن النضال من أجل العدالة والحرية والكرامة في فلسطين لم ينته بعد، وأولئك الذين يسعون إلى تقويضه سوف يواجهون في نهاية المطاف عواقب أفعالهم.
*كاتب فلسطيني وباحث في السياسة العامة والفلسفة السياسية