محمد يعقوبي*
ضخ المخرج الهندي بليسي إيبي توماس كل ما لديه من خبرة وملكات وابداغ فني وتقني في فيلمه الأخير حياة الماعز ، وضمنه أقصى درجات الحبكة الدرامية والتشويق الفني، بالطريقة نفسها التي تصنع بها الأفلام الامريكية في البراري والصحاري والقفار، وفي وقت قصير حصد الفيلم الجوائز وأثار الجدل وتسبب حتى في أزمات دبلوماسية صامتة، بسبب الاساءة البالغة التي لحقت بالمملكة العربية السعودية بل بكل البيئة العربية الاسلامية التي تتشابه في ملامحها ومضامينها.
المخرج الهندي دافع عن فيلمه في كل خرجاته الاعلامية، التي إلتقطها خصوم السعودية وأحيانا خصوم العرب والمسلمين، وقال أن الفيلم يعكس قصة حقيقية ولا يسيىء لأحد ولا لبلد ولا دين، وبنفس الكلمات دافع عن نفسه الممثل العماني طالب البلوشي.
السؤال هنا لا يتعلق بكون القصة حقيقية أم مختلقة، ففي كل بلد ستجد الكفيل المتوحش في صور مختلفة، لكن لماذا راوغ المخرج الهندي (وهو نفسه الشركة المنتجة) ضحاياه وصور الفيلم خارج أراضيهم، إذا لم يكن الفيلم مسيئا للسعودية، فلماذا لم يتم تصوير ولو أجزاء منه داخل السعودية!، واذا كان الفيلم بريئا فلماذا لا يوجد من بين ممثليه ولا ممثل سعودي واحد! واذا كان الأمر كذلك لماذا يبتدىء الفيلم قبل عرضه وقبل التعرف على ردود الفعل منه، بعبارة هذا الفيلم ليس الهدف منه الاساءة لبلد ولا دين ولا أحد!
العرب أجلاف حفاة عراة متخلفون !
يتماهى الفيلم الهندي “حياة الماعز” مع ما دأبت السينما الامريكية على الترويج له منذ عقود، وهو تصوير الانسان العربي المسلم في بيئة همجية متخلفة وإظهاره في ثوب الانسان الجلف المتخلف الذي يشتم ويضرب ويعذب وليس في قلبه رحمة، وكذلك ظهر الكفيل السعودي في الفيلم الهندي، يجمع كل الصفات السيئة ويحرم عامله حتى من شربة ماء في الصحراء، هذا السلوك النمطي ألفناه في السينما الامريكية التي لا ترى في العربي المسلم سوى مظاهر الارهاب والتخلف والجهل حتى ولو كان يمشي على أرض غنية لا ينفذ ما تحتها من غاز وبترول.
لذلك كانت محاولة الفيلم بائسة في الحط من قيمة الانسان العربي وبيئته، من خلال اختزال صورة بلد وبيئة عربية في سوط كفيل أرعن لا يمثل الا نفسه.
ولعلنا كعرب ومسلمين لا يمكن أن تنطلي علينا مثل هذه التشويهات، لأننا نعرف أكثر من غيرنا من خلال رحلات الحج والعمرة والسياحة أن الشعب السعودية من أطيب وأكرم وأذكى شعوب الأرض، لكنها للأسف صورة تؤثر على الرأي العام غير العربي الذي لا يعرف عن السعودية سوى أنها بلد نفطي غني، ثم يرى تلك المعاملة الوحشية للكفيل والبيئة المحيطة به فترسم لديه صورة سوداء عن السعودية والعرب والمسلمين في العالم.
لهدف ما بالغ المخرج الهندي في تصوير وحشية البيئة والانسان السعودي، فمن الظلم والقهر والضرب الى الثعابين والغربان التي تأكل جثث الاموات والأحياء الى قسوة الطبيعة وهي مشاهد مروعة تعود على تصويرها الامريكان في أفلام الرعب و الخيال ومصارعة الوحوش في البراري. وغاب عنه الانصاف حتى ولو كانت قصة حقيقية كان ينبغي اظهار الحياة الطبيعية التي يعيشها ملايين الهنود في السعودية وهي صور مشرقة إضطر مواطنون سعوديون الى إظهارها على وسائل التواصل الاجتماعي مؤخرا تحت ضغط ومخلفات الفيلم.
ومن غرائب ما صرح به مخرج الفيلم أنه أنصف السعوديين عندما أظهر الوجه المشرق لهم في صورة المواطن الصالح الذي أنقذ العامل الهندي ونقله بسيارته من الصحراء الى المدينة، في مشهد لم يتجاوز اربع دقائق باردة في مقابل ساعتين ونصف من المشاهد المروعة التي تصدر عن ذلك الكفيل المتوحش!
ماذا مأساة 200 مليون مسلم في الهند!
يمثل المسلمون في الهند حوالي 18% من مجموعة السكان ما يعادل 200 مليون مسلم من مجموع مليار وقرابة 400 مليون نسمة، وهم الاقلية الاكثر اضطهادا في تاريخ الهند، حيث يتعرضون بين الحين والاخر الى عمليات عنف جماعي منظم تحت ضغط التحريض الهندوسي الذي يكون مصحوبا بحرق المسلمين وهدم مساجدهم واقصائهم من الحياة العامة حتى ولو بسن قوانين تحرمهم من حقوقهم، وكلما حلت الانتخابات تعرض المسلمون للتهديد بالتصفيات وبسحب الجنسية، خاصة أن أغلبهم يسكن الارياف وحواشي المدن حيث يحرم السكان هناك من تسجيل مواليدهم لذلك يسهل حرمانهم من حقوقهم المدنية.
ومن أجل بقرة ظلت الطريق يمكن أن يحتشد الهندوس جماعيا بالآلاف ويهاجمون المسلمين فيحرقون مزارعهم ومساجدهم وحتى جثهم، في ثأر عرقي موروث منذ التقسيم البريطاني عام 1947 الذي ظهرت بعده دولتا باكستان المسلمة والهند الهندوسية، منذ ذلك الزمن ومسلمو الهند يضطهدون لأتفه الاسباب.
ولعلها احدى الدوافع الخفية التي ربما تكون قد حركت شركات الإنتاج لاحداث هذا الزلزال الذي خلفه فيلم حياة الماعز، حتى لو باظهار بطل الفيلم مسلما مصليا مستغيثا بنفس الاله الذي يناجيه أحيانا ذلك الكفيل الأرعن، لكن شحنات كبيرة من الغل بدا يحملها الفيلم للمملكة العربية السعودية، التي تظل رمزا للاسلام والمسلمين باحتضانها للمقدسات الاسلامية.
نفس المخرج ونفس شركات الإنتاج لم تجد في اضطهاد 200 مليون مسلم في الهند ما يغريها لانتاج فيلم واحد يحاكي القهر الذي يعيشه المسلمون تحت رحمة الهندوس في بلد تعج بالتصفية العرقية و الدينية.
شجاعة المواجهة ..
كل ما تقوم به المملكة العربية السعودية على صعيد التطوير الداخلي وفق خطة 2030 جميل وواعد ومذهل، لكن ما فعله فيلم حياة الماعز في بضعة دقائق من زلزال جرح مشاعر السعوديين بالدرجة الاولى، يحتم على القائمين بالامر في المملكة اعادة النظر في طريقة تسويق صورة المملكة بالخارج، مع الاخذ بعين الاعتبار أن المملكة العربية السعودية بغض النظر عن سياساتها التي قد تعجب البعض ولا تعجب البعض الآخر، هي عنوان لأمة كبيرة ممتدة من طنجة الى جاكرتا ، وليست مجرد بلد ينافح عن حدوده وقيمه، وما يمس كيانها وشعورها انما يمس بشعور المسلمين جميعا، لذلك وجب توجيه عمل المنتجين والمبدعين والمفكرين مستقبلا الى ابراز الجوانب المشرقة في بيئتنا ومحيطنا وحياتنا اليومية، ولن تكون أوضاعنا مشرقة حقيقة الا اذا كانت لدينا الشجاعة لإصلاحها والدفاع عنها بين الأمم.
*كاتب وإعلامي جزائري